لماذا أعلنت روسيا خفض عمليّاتها حول كييف؟

في 25 آذار، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنّ الأهداف الأساسية للمرحلة الأولى من العمليّة العسكريّة أُنجزت. وقال جنرالات روس شاركوا في الإحاطة الإعلامية إنّ كييف لم تكن قطّ هدف تلك العمليّة إنّما كانت الغاية منعها من استقدام تعزيزات عسكرية نحو منطقة دونباس في الشرق. حين جمعت تركيا المفاوضين الروس والأوكرانيين الثلاثاء، قال نائب وزير الدفاع الروسي إنّ قواته سوف "تخفّض عمليّاتها بشكل جذريّ" حول كييف وتشيرنيهيف.

 

لم تعلن روسيا قط أنّها تهدف من خلال عمليّتها العسكريّة إلى إسقاط الحكومة الأوكرانية أو إلى احتلال العاصمة. على العكس من ذلك، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين أعلن عن بدء العمليّة العسكريّة في 24 شباط، إنّ "خططنا لا تتضمّن احتلال أراض أوكرانية. لن نقوم بفرض أي شيء على أي أحد بالقوة". لكنّه المقابل تحدّث عن أنّ هدف العمليّة العسكرية هو "حماية الناس الذين تعرضوا للانتهاكات والإبادة على يد النظام في كييف طوال ثمانية أعوام. ولهذا سنسعى إلى نزع السلاح واجتثاث النازية من أوكرانيا، كما تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم دموية عدة ضد المدنيين، من بينهم مواطنون من الاتحاد الروسي، إلى العدالة".

 

لا يمكن التوفيق كثيراً بين خطاب بوتين وكلام وزارة الدفاع عن أنّ كييف لم تكن هدفاً للعمليّة، طالما أنّ "النظام في كييف" مسؤول عن "الانتهاكات والإبادة" والارتكابات "النازيّة" بحسب الرئيس الروسيّ. كذلك، لا يمكن التوفيق بين تقديم "المرتكبين" إلى العدالة وعدم الحاجة إلى إطاحة الحكم في كييف طالما أنّه مسؤول عن "الانتهاكات" بحسب السرديّة الروسيّة.

 

وثمّة مؤشّرات قد تبيّن أنّ روسيا كانت تهدف إلى إسقاط كييف، مثل المحاولات المحتملة لاغتيال الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي بحسب تقارير أوكرانيّة، كما مقال وكالة "ريا نوفوستي" الشهير في 26 شباط الذي ذكر عن طريق الخطأ أنّ "أوكرانيا عادت إلى روسيا".

 

"أول انتصار"

تحدّث مسؤولون أميركيون عن أنّهم رأوا إشارات إلى ابتعاد الروس عن كييف، لكنّهم لم يعربوا عن ثقة كبيرة في أن يكون الإعلان قد مثّل أيّ تغيّر بارز أو انسحاب ذي معنى. ربّما أرادت روسيا في إعلانها خلق أجواء إيجابيّة لتسهيل المفاوضات في تركيا و"تأسيس الظروف الضرورية للمزيد من المفاوضات"، كما قالت وزارة الدفاع الروسيّة. لكنّ قبول الغرب والأوكرانيين لهذا التفسير يحتاج إلى الكثير من حسن النيّة. في الوقت نفسه، يتحدّث المفاوضون الأوكرانيّون عن فوز لكييف على مسار التفاوض. وقال أحد هؤلاء المفاوضين، ديفيد أراخميا، إنّ بلاده حقّقت "أوّل انتصار" عبر نقل المفاوضات من بيلاروسيا، حليفة روسيا، إلى تركيا.

 

من جهتها، عزت وزارة الدفاع الروسية خفض عمليّاتها العسكريّة في كييف إلى استعداد أوكرانيا للقبول بالحياد وعدم حيازة أسلحة نووية. اعترف زيلينسكي أكثر من مرّة، حتى قبل العمليّة العسكريّة، بأنّ انضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسيّ لم يكن مطروحاً بجدية على أجندة الغربيين وأنه كان مستعداً لمناقشة مسألة الحياد مع الروس. لكنّ هؤلاء كانوا يعلمون أيضاً أنّ قضيّة انضمام أوكرانيا إلى الناتو كانت ضبابيّة في أفضل الأحوال. هل استحقّ الاحتمال الضئيل في اكتساب أوكرانيا العضوية الأطلسيّة، في مرحلة ما من المستقبل، حرباً كهذه؟ تصعب معرفة الحسابات الروسيّة بالضبط.

لكن حالياً، يبدو الأوكرانيّون مرتاحين نسبياً. يقول السفير الأوكراني السابق إلى النمسا أولكسندر شيربا لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" إنّ الروس "يدركون ربما أنّهم لا يفوزون في هذه الحرب، وأنّهم لن يفوزواً أبداً... نحن نعرف ما الذي نقاتل لأجله، الروس لا".

 

"تخلّت" عن فكرة التطويق

إنّ إعلان موسكو توجّهها لخفض التصعيد في كييف لم يتزامن فقط مع المفاوضات في تركيا. كان الجيش الروسيّ يعاني من هجمات مضادّة بالقرب من العاصمة الأوكرانية في الأيام الماضية، وقد أعلن الأوكرانيّون الاثنين عن استعادة مدينة إربين بالقرب من العاصمة. واستعاد الأوكرانيون أيضاً مدينة ماكاريف من الروس الأسبوع الماضي كما طوّقوا مدينة بوشا. كذلك، قال عمدة مدينة إربين الثلاثاء إنّ القوّات الأوكرانيّة ستستعيد بوشا وفورزيل وهوستوميل وهي جميعها قريبة من كييف. كما استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على تروستيانيتس في منطقة سومي، وفكّ الحصار عن مدينة تشيرنيهيف.

لا يزال استنتاج تغيير موسكو استراتيجيتها في أوكرانيا مبكراً، على الأقلّ بالنسبة إلى المسؤولين الغربيين والأميركيين. فعلى الرغم من الاحتمال الجدي في إعادة موسكو تركيز عمليّاتها العسكريّة في شرق وجنوب البلاد حيث تشهد نجاحاً نسبياً بعكس الشمال، ثمّة احتمالات أخرى في أن يكون موقف وزارة الدفاع الروسيّة مجرّد عمليّة شراء للوقت استعداداً لهجوم مستقبليّ آخر على كييف. قال البنتاغون إنّ ما شهده في كييف ليس انسحاباً للقوّات الروسيّة حتى بل مجرّد إعادة تموضع. وأبدى بايدن تشكيكه بما قاله الروس مفضّلاً انتظار نتائج ملموسة.

لكنّ محلّلين أميركيّين يبدون أقلّ حذراً تجاه إصدار تقييم أوّليّ. على سبيل المثال، وجد "معهد دراسات الحرب" أمس أنّ القوات الروسية تخلّت عن فكرة تطويق كييف أو السيطرة عليها في الوقت الحاليّ. "من المرجّح أن تكون القيادة الروسية العليا قد استنتجت أنّها لا تستطيع السيطرة على كييف وقد لا تكون قادرة على نقل المدفعيّة إلى مكان أقرب من مركز المدينة". وأضاف: "يمكن أن تكون قد قرّرت وقف نشاطاتها السابقة في إجبار الوحدات التي سبق أن تلقّت خسائر فادحة على مواصلة عمليات هجومية بلا أمل..." على أن تركّزها في معارك أخرى قادرة على إنتاج تأثيرات حاسمة.

لكنّ ما قد يضاعف الحذر تجاه احتمال وقف الحرب على كييف هو ما كتبته "ريا نوفوستي" نفسها في مقالها الشهر الماضي: "هل من أحد في العواصم الأوروبية القديمة، في باريس وبرلين، يعتقد جدياً أنّ موسكو ستتخلى عن كييف؟"

 

ربّما يفرض الميدان إرادته على موسكو. وربّما ترفض الأخيرة كلمته. الأيام المقبلة قد تكشف عن أجوبة أوضح.