هل تصمد وحدة الغرب حيال أوكرانيا؟
يقول النائب الأميركيّ السابق غلين ناي إنّ الديموقراطيّات غالباً ما تكون بطيئة في التحرّك، لكن عندما تستطيع ذلك سيكون كلّ شيء تقريباً مطروحاً على الطاولة. مثّل تاريخ 24 فبراير/ شباط 2022، استعادت العلاقات العابرة للأطلسيّ وحدتها التي تآكلت على مدى عقدين من الزمن. بدأت هذه العلاقات تفقد بريقها منذ الحرب على العراق ولحظة توصيف واشنطن لفرنسا وألمانيا بأنّهما "أوروبا القديمة"، لمعارضتهما الاجتياح، لتصل إلى ذروتها مع الانسحاب الأميركيّ الفوضويّ من أفغانستان واتّفاق "أوكوس" بين واشنطن وأستراليا.
لم تكن العلاقات مضطربة بين الأميركيين والأوروبيين فقط، بل بين الأوروبيين أنفسهم، حيث برزت خلافات أولّاً بين الاتّحاد الأوروبي وبريطانيا على خلفية تصويت الأخيرة لصالح الخروج من النادي الأوروبيّ سنة 2016، ثمّ بين دول الاتّحاد نفسه، إذ كانت دول غرب القارّة تتّهم شرقها بانتهاك مبادئ حكم القانون والقيم الليبيراليّة، بينما كان الطرف الثاني يردّ بأنّ أوروبا الغربيّة تركته وحيداً في مواجهة روسيا.
ما بعد الصدمة
شكّل غزو روسيا لأوكرانيا مناسبة لالتفاف الغرب مجدّداً حول نفسه. دعم الغرب بقيادة الولايات المتّحدة أوكرانيا بالسلاح والمال، وفرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا لحرمانها من إمكانيّة مواصلة الحرب لفترة طويلة. وتخلّت ألمانيا عن سياسات طويلة المدى في إبقاء الإنفاق العسكريّ عند حدوده الدنيا، كما في الامتناع عن نقل أسلحة ألمانية إلى مناطق الصراع. في هذه الأثناء، يواصل حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) تعزيز جناحه الشرقيّ بالجنود والمعدّات. لكنّ الإشكاليّة تكمن في أنّ هذه الوحدة غير قادرة على إخفاء معالم الشرخ. لغاية اليوم، استطاع الرئيس جو بايدن الحفاظ على قيادة متماسكة للعالم الغربيّ. لعلّ سبب النجاح الأوّل هو توقّع استخباراته بدقّة أنّ الروس كانوا سيشنّون الحرب، وأنّ الحشود العسكرية التي انتشرت على الحدود مع أوكرانيا لم تكن مجرّد خداع. التحدّي الحقيقيّ أمام بايدن اليوم هو الإبقاء على هذا التماسك.
شكّل الهجوم الروسيّ صدمة قاسية للغرب دفعته إلى ردّ فعل سريع على الخطر الذي استشعره: لن تكون أوكرانيا آخر دولة يحاول بوتين غزوها أو تغيير خريطتها في حال نجح مخطّطه الأوكرانيّ. لكن مع تراجع وقع الصدمة كلّما طال أمد الحرب، سيتراجع معها بشكل آليّ تلاحم الغرب. وعلى الرغم من الدعم العسكريّ الذي قدّمه الناتو إلى أوكرانيا، لا يزال المسؤولون في كييف محبطين بسبب اقتصار هذا الدعم على الأسلحة الدفاعية. وتنقل مجلة "إيكونوميست" البريطانية عن مصادر قولها إنّ ألمانيا والمجر تقفان في وجه فرض المزيد من العقوبات على روسيا.
من المجر حتّى فرنسا
كانت المجر قد أعلنت رفضها مناقشة فرض عقوبات على واردات الطاقة من روسيا وفرض منطقة حظر جويّ فوق أوكرانيا. كما كانت الدولة الأوروبية الوحيدة التي امتنعت عن إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وحتّى عن نقل أسلحة من أطراف ثالثة عبر حدودها. وتعدّ المجر من أقرب الدول الأوروبيّة سياسيّاً إلى روسيا، مع ذلك، شاركت في فرض عقوبات غير نفطيّة على موسكو.
إذا كان هناك إجماع أطلسيّ لغاية اليوم على تفادي فرض منطقة حظر جويّ خوفاً من صدام مباشر مع موسكو، فمسألة فرض العقوبات على صادرات الغاز الروسيّة تحمل هامشاً من المناورة. تؤمّن روسيا 40% من حاجة أوروبا من الغاز وأكثر من 25% من وارداتها النفطية. الدول الأكثر اعتماداً على هذه الإمدادات، وألمانيا في مقدّمتها، متردّدة في اتّخاذ خطوة كهذه بسبب آثارها على اقتصاداتها المحلّيّة. أعلنت ألمانيا أنّها تريد التخلّص تدريجيّاً من الاعتماد على الطاقة الروسيّة. ليس واضحاً ما إذا كانت برلين ستحافظ على هذه الرغبة مع مرور الوقت. وأعلنت موسكو أنّها ستلزم الدول "غير الصديقة" بدفع ثمن النفط والغاز بالروبل الروسيّ. قوبل هذا الطلب بالرفض على قاعدة ضرورة احترام العقود الموقّعة. وكيفيّة حلّ الطرفين هذه الإشكاليّة تبقى أيضاً قيد التكهّن.
وطالب زيلينسكي مجدّداً الدول الأوروبية بمنح بلاده عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ بأسرع وقت ممكن. لكنّ هذا الطلب وُوجه سابقاً بالرفض، في محاولة محتملة لعدم إغضاب روسيا.
في الوقت نفسه، تبرز فرنسا كدولة تحاول خفض التوتّر مع روسيا على المستوى الخطابيّ تسهيلاً للحلّ السياسيّ كما تقول. يمكن أن يكون هذا الأمر عبارة عن تبادل أدوار بين واشنطن وباريس، حيث تصعّد الأولى لهجتها ضدّ بوتين (مع نعوت قاسية بحقّ الرئيس الروسيّ)، بينما تقوم الثانية بانتقاد هذا التصعيد على قاعدة أنّه غير مفيد للحلّ. وردّ الرئيس الفرنسيّ على وصف بايدن بوتين بـ"الجزّار" خلال كلمة له في زيارته بولندا، قائلاً "لا نستطيع التصعيد في الكلمات والأفعال". لكن قد يكون للفرنسيّين مواقف أكثر تباعداً من مواقف الأميركيّين.
كتب الديبلوماسيّ الفرنسيّ السابق في الأمم المتّحدة (2014-2019) جيرار أرو في تغريدة الأحد، عن أنّ "السياسة الخارجيّة هي اختيار أهون الشرّين. البديل عن التفاوض مع بوتين هو القتال حتّى آخر أوكرانيّ". لا يشغل أرو حاليّاً أيّ منصب فرنسيّ رسميّ، مع ذلك، من المنطقيّ التساؤل عمّا إذا كان هذا الموقف يعبّر عن أجواء معيّنة في العاصمة الفرنسيّة. من جهة أخرى، وعلى الرغم من السياسة الألمانيّة الجديدة تجاه روسيا، لا يزال مراقبون يرون أنّها أقلّ من المتوقّع. فالاقتصاديّ الأميركيّ - الأوكرانيّ رومان شيريميتا غرّد أنّ "إستونيا أصغر من ألمانيا بـ65 مرّة مع ذلك أعطوا مساعدة عسكريّة إلى أوكرانيا أكبر بـ6 مرات".
بايدن في مواجهة بوتين... وخصم آخر
في حديث إلى مجلّة "بوليتيكو"، يقول خبير الشؤون الأطلسية في "صندوق مارشال الألماني للولايات المتّحدة" أيان ليسر إنّ فترة مطوّلة من المواجهة مع روسيا تتطلّب استدامة الزخم الحاليّ للموقف الغربيّ المناوئ لروسيا. لكن في إشارة إلى مدى صعوبة هذا التحدّي، تعتقد المجلّة أنّ بايدن يواجه خصمين في آن معاً: بوتين والوقت.
بالفعل، لا يزال مبكراً الحديث عن وحدة غربيّة في مواجهة روسيا أو عن نجاح أميركيّ في خلق ديناميّة جديدة توخّاها الغرب منذ فترة طويلة. بحسب مجلّة "إيكونوميست"، إذا فشل بايدن في توحيد حلفائه خلال الفترة المقبلة، فسيكون عمله الجيّد قد تبدّد.