الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

في شرقنا الأوسط... ماذا سيفعل البهلوان الروسي والحبال تهتز على وقع أوكرانيا؟

المصدر: "النهار"
مناورات عسكرية في روستوف بجنوب روسيا (أ ف ب).
مناورات عسكرية في روستوف بجنوب روسيا (أ ف ب).
A+ A-
سمير التقي
 
 
باحتدام الأزمة الأوكرانية، تبلغ العلاقات الروسية - الأميركية نقطة إنعطافية. وبغض النظر عن الشكل الذي ستنتهي به هذه الأزمة فلقد انكسر مزرابا العين بين روسيا والغرب بشكل عام. لقد حصل الضرر على العلاقات الدولية ولن ينسى، لعقود، العسكريون والسياسيون في بلدان البلطيق وبولندا، بل وفي دول أوروبا الشرقية والغربية وغيرها من جيران روسيا، منظر الدبابات الروسية تحضر للغزو في أي لحظة.

إذن، لم تكن غزوات بوتين تلك رد فعل على ما جرى في ليبيا، ولا انتهاز فرصة وهن الموقف الأميركي تجاه سوريا، أو لملء فراغ نتيجة الانكفاء الأميركي في المتوسط، ولا مجرد عنجهية عسكرية قومية كما في القرم أو دونباس، بل كشفت المطالب الصريحة التي أعلنها في مذكرتيه الى "الناتو"، أنه يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن الحرب الباردة، وكأن شيئاً لم يكن!

فلقد اختار بوتين منطق الدبابات، وتم نهائياً إغلاق كل جدل حول احتمال أن تتحول روسيا دولة طبيعية تنضم، على إيقاعها الخاص، كشريك في النظام الدولي والاقتصادي الليبرالي العالمي.

هذا لا يعني أبداً أننا ذاهبون الى حرب واسعة، ولا يعني إطلاقاً انتهاء دبلوماسية الكر والفر، بل على العكس، سيزدهر عمل الدبلوماسيين مع احتدام العلاقات بين الغرب الليبرالي وروسيا.

في الشرق الأوسط، وبدخوله الاستراتيجي إلى سوريا، راهن بوتين على بناء منظومة يمكن ان نسميها بـ "Pax Putina" (السلم البوتيني الإقليمي)، حيث تدير روسيا منظومة وساطة عسكرية ودبلوماسية زاجرة، لتصبح إدارة المنطقة أمراً مستحيلاً من دون دورها كوسيط مهيمن.

وبالفعل صارت روسيا، لفترة، نقطة التقاطع الدبلوماسي – العسكري والاستراتيجي لفض العديد من الاشتباكات التكتيكة بين اللاعبين الإقليميين. فكانت روسيا تتمرن على القفز بين تركيا والنظام السوري، وبين إيران وإسرائيل، وبين دول الخليج وإيران، وبين تركيا والأكراد، وبين تركيا واليونان ألخ... بل وصلت الى مرحلة تصورت فيها أنها قادرة على أن تصبح هي الضامن لأمن دول الخليج. نجح بوتين في تلك العمليات التكتيكية بشكل يدعو الى الإعجاب! وصار بعضهم في تركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية، يتشاطرون في كسر ثوابت تحالفاتهم المؤسسة لدولهم، مع الغرب، والسباحة مع روسيا خارج السرب.

سار كل شيء سمناً وعسلاً، طالما أن الأميركيين مشغولون، أو أنهم غير مبالين أو أنهم واهنو العزيمة، لدرجة أصبح الحديث عن انتهاء الزمن الأميركي أمراً دارجاً. وطبلت البروباغندا الروسية لعصر السلم البوتيني، وفي أحسن الأحوال كان الحديث يجري عن تفويض أميركي لروسيا.

لكن الفرحة لم تكتمل، والنجاح التكتيكي للسلام البوتيني لم يكتمل بنجاح استراتيجي على صعد عدة، إذ لم يتمكن السلام البوتيني من تقديم أي حل مستدام لا يعتمد على مساهمة الغرب لأي أزمة انخرط فيها! لم يتمكن في سوريا، من تقديم أي شيء يقنع الغرب بتمويل المشروع الروسي لإعادة الإعمار، ولا هي تمكنت من حل الأزمة بين تركيا والنظام السوري، ولم يسفر الود الشديد بين نتانياهو وبوتين عن أي انفراج بين إسرائيل وإيران، ولا تمكنت روسيا من الاستفادة من نفوذها لتحقيق تقدم في الوساطة بين العرب وإيران. بل تحولت الوساطة الروسية الإقليمية ضامناً لإبقاء الإقليم على لهيب منخفض، يهدد بالانفجار كل لحظة.

ها هي تركيا توجه الضربات للقوات الروسية في إدلب، ثم في ناغورني كراباخ، حيث تجاوزت قيمة الأسلحة التي خسرتها روسيا الملياري دولار. ثم ها هي تركيا تبيع المسيرات لأوكرانيا.

وبعد سقوط نتنياهو، سارع بوتين لمناكفة إسرائيل، فسمح للقوات الإيرانية بالتوغل على حدودها في منطقة درعا، ثم ها هي إسرائيل لا تكتفي بقصف مرابض الصواريخ، بل تضرب ميناء اللاذقية تحت أنف القوات الروسية، لتدير روسيا خدها الأيسر. وها هي ليبيا وها هي أسعار النفط ألخ... الصورة ذاتها تمضي لتنكشف أزمة المشروع البوتيني.
فلا تركيا ستغادر حلف الأطلسي، ولا إسرائيل ستراهن على قوات روسية لردع إيران، ناهيك بتحالفها المصيري مع الغرب، ولا كانت روسيا قادرة على جسر الهوة في الخليج، ولا أسعار النفط ستصبح سلاحاً في يدها.

باختصار، ومع احتدام الصراع الدولي، واهتزاز الحبال بشدة في الإقليم، لم يعد من الممكن لروسيا أن تستمر في القفز بين الخصوم لتحقيق الحلم المستحيل، ألا وهو إرضاء أو ترويض الجميع في الشرق الأوسط!

تأتي الأزمة الأوكرانية لتضيف المزيد من التوتر على هذه الحبال المشدودة، ولتضييق هوامش مناورة العديد من اللاعبين الإقليميين.
وفي المقابل لم تتمكن الأوليغارشية الروسية من تقديم بديل نمو واعد للعديد من الدول الأفقر او الدول الفاشلة او المنهارة، بديلاً يفتح مسار تنمية يخرجها من اقتصادها المنهار في ظل جفاف الريع في الإقليم.

لا شيء وحّد أوروبا مع أميركا في الحلف الأطلسي وبلور الاتحاد الأوروبي، بقدر خطاب واحد من ستالين في أيار (مايو) 1946. وسيكتشف بوتين أن صور المدرعات والصواريخ المحتشدة على أبواب أوكرانيا، لن تكون أقل أثراً في الأوروبيين والعالم من خطاب ستالين. فقد أيقظ وحفز الردع الغربي الذي بقي متراخياً بعد نهاية الحرب الباردة، كعادته، في نهاية كل حروبه الكونية.

السمة العامة الراهنة هي أن الاحتدام المتصاعد، سواء تم توقيع الاتفاق النووي أم لا، وسواء اخترقت القوات الموالية لروسيا حدود أوكرانيا أم لم تفعل، فلقد انكسرت الجرة، وصار الصراع مفتوحاً.

وفي شرقنا الأوسطي، وفي ظل التناحر بين السلم البوتيني والسلم الدولي الليبرالي، وبعد عواصف الربيع العربي وبعد أزمات كوفيد، يتوقع الباحثون الخبراء أن تنعكس الأزمة الأوكرانية عبر المزيد من تعميق الكوارث، وعبر تعمق أزمات الأنظمة والأزمات الاقتصادية العامة، لتفتح دورة اضطرابات اجتماعية جديدة لمواجهة سوء الحوكمة وانسداد الأفق أمام الشباب، مع تداعي نموذج الدولة الريعية.

ولعل الأجدر بنا أن نتفكر في إخراج الإقليم من الثقب الأسود الذي يجعله مصرفاً لكل أزمات العالم. ونكف عن المراهنة على نصر يمحضنا إياه غرب أو شرق في حروبنا الكهنوتية والإمبراطورية، بل أن نتفكر في إعادة بناء هذه الأوطان، لا على أساس الريع والبلطجة الإقليمية، ولا من منطق بيع دورنا ومواردنا وموقعنا الاستراتيجي للقوى الدولية المهيمنة مقابل الريع، بل من منطق إنتاج نموذج دولة وتنمية مستدامة ومنظومة ذاتية للسلام في الإقليم، تنهي صراع الكهنوت والإمبراطوريات فينا، وتقطع دابر صراع الغرباء علينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم