"أراضي الدم": عن أوكرانيا و"نبوّة" جورج كينان

"أعتقد أنه خطأ مأسويّ... سيجعل هذا التوسّع (الأطلسيّ) الآباء المؤسّسين لهذه الدولة (أميركا) يتقلّبون في قبورهم."

هكذا استعاد الكاتب في صحيفة "نيويورك تايمس" توماس فريدمان في شباط 2022 إجابة الديبلوماسيّ الأميركيّ الأسبق جورج كينان (1904-2005) حين سأله سنة 1994 عن رأيه بتوسّع حلف شمال الأطلسيّ. وصف فريدمان كينان بأنّه أعظم خبير أميركيّ في الشأن الروسيّ.

اشتهر كينان بأنّه صاحب "التلغرام الطويل" (شباط 1946) وصاحب المقال بتوقيع "أكس" في مجلّة "فورين أفيرز" (تموز 1947) حين هدف من خلالهما دعوة واشنطن إلى الانتباه لخطر الاتّحاد السوفياتيّ وتبنّي سياسة احتوائه.

حين أخبر مساعد وزير الخارجيّة الأميركيّ دين آتشيسون (أصبح لاحقاً وزيراً للخارجيّة) زميلاً له أنّ كينان سيترأس مكتب التخطيط السياسيّ المؤسّس حديثاً في وزارة الخارجيّة، ردّ عليه قائلاً: "إنّ رجلاً مثل كينان سيكون ممتازاً لتلك الوظيفة."

لكنّ الجواب من آتشيسون أتى سريعاً: "رجلٌ مثل كينان؟ لا أحد مثل كينان."

هذا ما يرويه في مجلّة "فورين أفيرز" تحت عنوان "تحذير كينان عن أوكرانيا" الأستاذ المتميّز للتاريخ في جامعة كونيتيكت ومؤلّف كتاب "كينان: حياة في عوالم" فرانك كوستيغليولا.

 

"النبيّ الذي لم يؤخذ بنصيحته"

يتنقّل كوستيغليولا بين مراحل مختلفة في مسيرة كينان الذي أتقن اللغة الروسيّة وانغمس في الثقافة ونمط العيش الروسيّين وكوّن أصدقاء كثر داخل الاتّحاد السوفياتيّ. مكّنته هذه الصفات من استشراف عدم تقبّل الروس لفكرة أوكرانيا مستقلّة. لكنّه لاحظ منذ ذلك الوقت (1948) أنّ الأوكرانيّين "استاؤوا من الهيمنة الروسيّة؛ وأنّ منظّماتهم القوميّة كانت نشطة وصاخبة في الخارج." مع ذلك، دعا واشنطن إلى عدم تشجيعهم على الانفصال مشبّهاً ذلك بفصل منطقة البحيرات الكبرى الصناعيّة عن الولايات المتحدة. "لا يمكننا أن نكون غير مبالين بمشاعر الروس"، كتب كينان في ذروة الحرب الباردة. بعد نهايتها، حافظ الديبلوماسيّ على النظرة نفسها.

في مقطع تحت عنوان "نبيّ مُتجاهَل"، يلفت كوستيغليولا النظر إلى أنّ كينان، وبعكس خبراء أميركيّين آخرين في الكرملين، توقّع سقوط الاتحاد السوفياتيّ. ومع أنّه كان لا يزال مكرّماً في الإدارات الأميركيّة، لم يأخذ الرئيس بيل كلينتون وتحديداً مستشاره للشأن الروسيّ ستروب تالبوت بتحذيره من توسيع "الناتو" كما من إجراء تدريبات عسكريّة مشتركة بين الحلف الأطلسيّ وأوكرانيا ودول آسيا الوسطى والبلطيق بين 1995 و1997.

اعترف تالبوت حينها بأنّ جميع الروس إمّا معارضون بشدّة أو قلقون بشدّة من توسيع الحلف. في رسالة خاصّة، كتب كينان لتالبوت: "لا يظهر هذا الخيار في أيّ مكان أخطر... ممّا هو عليه الحال في (التدريبات العسكريّة البحريّة مع) أوكرانيا."

بحسب الكاتب نفسه، احترم تالبوت مخاوف كينان لكنّه قال إنّ على روسيا "التخلّص من عادة متأصّلة بعمق في التفكير والسلوك" عبر التعاون مع جيرانها بدلاً من السيطرة عليهم. وقال إنّ إدارة كلينتون "لن تتوقّف عن التعاون مع أوكرانيا ولكن مع مضاعفة جهودنا لإشراك روسيا."

 

عن "محاصرة" أميركا لروسيا

بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي طالت طريقة تعامل الولايات المتحدة مع روسيا بعد نهاية الحرب الباردة، لم تكن كلّ السياسات الأميركيّة "غير مبالية" بهواجس الروس أو حتى "عدوانيّة" تجاهها. يمكن رؤية منطق إدارة كلينتون في التسعينات من زاوية مختلفة عن نظرة رائجة تقول إنّ أميركا كانت تحاول "تطويق روسيا". مقابل خطوات "توسيع" الناتو، أو بتعبير أدقّ، استقبال المزيد من الدول "الراغبة" بالانضمام إلى الحلف الأطلسيّ، كانت إدارة كلينتون تقترب خطوات أخرى من روسيا. فهي دعت موسكو إلى المشاركة في التدريبات العسكريّة مع أوكرانيا (رفضت روسيا الدعوة)، كما أطلقت "الشراكة من أجل السلام" التي جمعت تحت سقفها روسيا والحلف الأطلسيّ حتى باتت المبادرة تعرف باسم "ناتو-مخفّف".

يذكر كوستيغليولا الخطوات الأميركيّة المنفتحة على روسيا لكنّه لا يبدو مقتنعاً بأنّها أمكن أن تخفّف من المخاوف الروسيّة. مع ذلك، يصعب إنكار أنّها جاءت في إطار أميركيّ أوسع يهدف إلى بناء عالم أكثر سلميّة قائم على التعاونين الإقليميّ والدوليّ بعد نهاية الحرب الباردة. ففي عهد كلينتون أيضاً، تمّ التوقيع على معاهدة بودابست التي سلّمت أوكرانيا بموجبها أسلحتها النوويّة مقابل ضمان واشنطن وموسكو ولندن لأمنها (كما عدم الضغط السياسيّ والاقتصاديّ على حكوماتها). ومن ضمن الخطوات الأميركيّة الانفتاحيّة على موسكو، تمّت دعوة روسيا للانضمام إلى مجموعة الثماني سنة 1997. (عُلّقت عضويّتها سنة 2014 بعد ضمّ القرم). وفي 1993، تلقّت روسيا دعوة للانضمام إلى "الاتّفاقيّة العامّة للتعريفات الجمركيّة والتجارة" التي سبقت تأسيس "منظّمة التجارة العالميّة". وانضمّت روسيا إلى المنظّمة في 2011 بعدما توسّطت سويسرا (والولايات المتحدة خلف الكواليس) لإسقاط اعتراض جورجيا التي كانت موسكو قد احتلّت منطقتين تابعتين لها في 2008. وكانت إدارة كلينتون قد دعت الصين للانضمام إلى منظّمة التجارة في تأكيد إضافيّ على النظرة الأميركيّة إلى عالم أكثر تداخلاً اقتصاديّاً وأقلّ لجوءاً إلى النزاعات العسكريّة.

 

"خطاب دجاج كييف"

عيّنة الأمثلة هذه تبيّن أنّ اتّهام واشنطن بـ"محاصرة" روسيا بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ هي تبسيطيّة وغير موضوعيّة في أفضل الأحوال. حتى مع افتراض العكس، ثمّة مثلٌ نادراً ما يُذكر عند الحديث عن "لامبالاة" الولايات المتحدة بالمصالح القوميّة لموسكو.

في الخطاب الذي بات يُعرف لاحقاً بـ"خطاب دجاج كييف" بفعل طبق الدجاج الذي قُدّم إليه حينها، ألقى الرئيس الأميركيّ جورج بوش الأب كلمة في أوكرانيا سنة 1991 حذّر فيها كييف من "القوميّة الانتحاريّة" و"الكراهية الإثنيّة". كان همّ بوش تجنّب حرب سوفياتيّة داخليّة كما قال لاحقاً. خلال خطابه في كييف، قال إنّه سيدعم الإصلاح والاقتصاد الحرّ للبلاد لكنّه لم يأتِ على ذكر السيادة والاستقلال منبّهاً من استبدال استبداد بعيد باستبداد داخليّ آخر.

كان الكاتب السياسيّ في "نيويورك تايمس" وليام سافاير هو من أطلق هذا التوصيف في سنة 1991. وفي كانون الأوّل 2004 كتب أنّ بوش فهم من كلماته أنّه قصد بذلك جُبن الرئيس السياسيّ لا سوء التقدير "الهائل" لسياسته، ولهذا السبب لم يتحدّث معه منذ ذلك الحين. رأى سافاير في المقال نفسه أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين يريد ضمّ الشرق الأوكرانيّ الموالي لروسيا ورفض الغرب الأوكرانيّ القريب من أوروبا وقد امتلك خطّة "تفكيك" لشعب جورجيا في "الجوار القريب" لروسيا. كان ذلك حتى قبل إطلاق "الأطلسيّ" وعوده للدولتين.

في جميع الأحوال، لا يُستبعد أن يكون بوش الأب قد تأثّر بأفكار كينان، هو الذي منحه "ميداليّة الحرّيّة" سنة 1989. إن دلّت هذه الأمثلة على شيء فهو أنّ "العدوانيّة" الأميركيّة المفترضة تجاه روسيا لم تكن متجذّرة في الاستراتيجيّة الأميركيّة.

 

"أراضي الدم"

ليس قدر أوكرانيا (ولا دول أوروبا الشرقيّة) أن تكون "أراضي دم" كما وصفها كينان أو أن تصبح كذلك لمجرّد "وعدٍ" بالانضمام "يوماً ما" إلى الناتو. إنّ "نبوّة" كينان في توقّع سقوط الاتّحاد السوفياتيّ أو "موهبته" في قراءة السياسة والثقافة الروسيّة بحسب توصيف كوستيغليولا، لا تُترَجمان آليّاً كدليل مقدّس على تورّط الولايات المتّحدة وحلفائها في إشعال الحرب الحاليّة. سبق أن أخطأ كينان مرّات عدّة في مسيرته، كما حين عارض دعوة ترومان اليابان وألمانيا النازيّة إلى الاستسلام بدلاً من التفاوض، أو عندما توقّع عدم قدرة أميركا "الرأسماليّة" على الاستمرار أو عدم قدرة أميركا المفرطة الانتشار العسكريّ على حماية أوروبا من دون أن تؤذي نفسها. ويشير آخرون إلى تراجعه في أواخر الأربعينات عن سياسة الاحتواء حين فضّل تجنّب الاصطدام مع الاتّحاد السوفياتيّ ورفض سياسة "تحرير" أوروبا الشرقيّة.

حتى كوستيغليولا يشير إلى أنّ كينان أخطأ حين قلّل من أهمّيّة النزعة الاستقلاليّة لدى الأوكرانيّين؛ كينان وبوش ارتكبا الخطأ نفسه... قبل أن ينضمّ إليهما الرئيس بوتين. الفرق أنّ كلفة الخطأ على روسيا أكبر بكثير من كلفته على أميركا.