الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

بعد غزو أوكرانيا... بوتين لم يعد "لاعب شطرنج" جيوسياسياً؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - "أ ف ب"
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - "أ ف ب"
A+ A-

نُسبت إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صفات كثيرة وتشبيهات عدّة. لعلّ أبرزها أنّه "لاعب شطرنج" على الساحة الدولية. بحسب هذه السردية والحجج التي بنيت عليها، مضى بوتين في تصحيح "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، عنى بها انهيار الاتحاد السوفياتي، فراح يوسّع نفوذ روسيا في "الجوار القريب" أي في الدول السوفياتية السابقة أو تلك التي كانت تدور في فلكها.

 

مكاسب بالجملة

سيطرت روسيا في 2008 سريعاً على مقاطعتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا ثمّ ضمّت القرم بعد ستة أعوام ودعمت مجموعة انفصاليين في شرق أوكرانيا طوال أعوام. وفي سوريا، تدخّل بوتين عسكرياً بنجاح سنة 2015 فأنقذ حكم الرئيس السوري بشار الأسد. وتدخّلت "منظّمة معاهدة الأمن الجماعي" بقيادة روسيا في كازاخستان أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي لإخماد اضطرابات اندلعت ضد الرئيس قاسم جومارت توكاييف. اللافت في جميع هذه التطورات أنّها حصلت من دون كلفة كبيرة سياسية أو اقتصادية على روسيا أو على الكرملين.

من جهة ثانية، ثمّة تحرّكات قامت بها روسيا، أو على الأقلّ اتُّهمت بها، وهي أضرّت بمصالح الغرب ووحدته. على سبيل المثال، اتّهم مراقبون غربيون ومعهم أجهزة استخبارية موسكو بالتدخل في انتخابات عدد من الدول لعلّ أبرزها انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية التي فاز بها دونالد ترامب. ووُجّهت أصابع اتّهام عدة إلى موسكو بدعم مجموعات اليمين المتطرف أو اليمين الشعبويّ في الغرب، حيث صاغ سياسيّوه علاقات إيجابيّة مع بوتين. ولم تسلم روسيا من اتّهامات بدعمها حركات انقلابية في دول أوروبية. ولعلّ الانتقاد الأكبر جاء في تحليل للباحثة في "بروكينغز" فيونا هيل التي خدمت في إدارة ترامب والتي كتبت أنّ الولايات المتحدة لم تفشل فقط في جعل روسيا ديموقراطية بل إنّ روسيا نفسها حوّلت الولايات المتحدة إلى ما يشبه نمط حكمها.

 

ربط المراقبون هذه التطورات للقول إنّ بوتين استطاع تحقيق مكاسب كثيرة عبر خطوات استراتيجية جعلت الغرب عاجزاً عن اللحاق بالرئيس الروسي وردعه عن تحقيق أهدافه. دخل هذا السجال الحياة السياسية الأميركية، حيث قال معارضو الرئيس السابق باراك أوباما إنّه يلعب "الداما" بينما يلعب بوتين "الشطرنج" على المستوى الاستراتيجيّ. لكنّ قرار غزو أوكرانيا جاء ليقلب جزءاً كبيراً من السردية.

 

خسائر كبيرة

بالحد الأدنى، وعلى عكس ما حصل في جورجيا وسوريا والقرم، سيكون انتصار الجيش الروسيّ، لو تحقق مكلفاً للغاية. من الناحية البشرية، قد يكون أكثر كلفة ممّا تكبّده الاتحاد السوفياتي في أفغانستان لو صحّت أرقام الغربيّين بشأن سقوط آلاف القتلى الروس. علاوة على ذلك، استطاع بوتين بخطوته توحيد الغرب بشكل غير مسبوق، كما دفع ألمانيا إلى زيادة إنفاقها العسكري في تحوّل جذريّ. وباتت نسبة السويديين والفنلنديّين الذين يريدون الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أعلى من نسبة المعارضين، وهو تطور تاريخي أيضاً. حتى السياسيون المحسوبون على اليمين المتطرف أو الشعبوي والذين لم يخفوا في السابق علاقاتهم مع بوتين التزموا الصمت بالحد الأدنى، هذا إن لم ينتقدوه في بعض الأحيان.

إذاً، هل فشل بوتين كلاعب شطرنج استراتيجيّ؟ ثمّة مشكلة في السؤال أو في التشبيه، على ما يذهب إليه مراقبون للشأن الروسيّ. لا يوجد ما يثبت أنّ بوتين يلعب الشطرنج في حياته العادية كي ينقل خبرته فيها إلى المستوى الجيوسياسيّ، قبل أو بعد غزو أوكرانيا.

 

أبعد من ذلك، رأى بطل الشطرنج غاري كاسباروف أنّ بوتين "يكره" هذه اللعبة وهو يمارس عوضاً عنها نوعاً من "البوكر الجيوسياسي". ففي مقابلة مع مجلة "سلايت" سنة 2016، قال كاسباروف: "بوتين، كأي ديكتاتور، يكره الشطرنج لأنّ الشطرنج لعبة استراتيجية وشفافة 100 بالمئة. أعلم ما هي الموارد المتاحة بالنسبة إليّ وما نوع الموارد الي يمكن أن يحرّكها خصمي". وتابع: "في البوكر، أنت تعلم، بإمكانك الربح ولو كانت أوراقك ضعيفة، إذا كان لديك ما يكفي من السيولة لرفع المخاطر – وأيضاً، إذا كنت لديك أعصاب قوية، من أجل الخداع. ظل بوتين يخادع. كان بإمكانه رؤية خصومه الجيوسياسيين – قادة العالم الحر يوقفون رهاناتهم، الواحد تلو الآخر".

 

بوتين كلاعب جودو

إذا كان بالإمكان نسب لعبة رياضيّة إلى طريقة تفكير الرئيس الروسيّ فستكون رياضة "الجودو" بالتأكيد. فهو حائز على الحزام الأسود فيها وقد شغل مطوّلاً منصب الرئيس الفخري للاتحاد الدولي للجودو قبل أن يتمّ تجريده من المنصب بسبب اجتياح أوكرانيا.

تعتمد لعبة الجودو على استغلال نقاط ضعف الخصوم للإطاحة بهم، وهذا ما يبدو أنّ بوتين تلمّسه طوال السنوات الماضية لتوجيه ضرباته السياسية. حين شعر أنّ الغرب ضعيف أو مشتّت أو غير مهتمّ بإيقافه أو بالصدام معه، انتهز بوتين الفرصة لإيقاع خصومه. قبل يوم واحد من بدء الغزو، أشارت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت في صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنّ خيار بوتين التنافسيّ "ليس الشطرنج، كما يفترض البعض، بل الجودو". وأضافت: "بإمكاننا توقّع أن يواصل البحث عن فرصة لزيادة نفوذه ويضرب في المستقبل. سيكون على الولايات المتحدة وأصدقائها حرمانه من تلك الفرصة عبر الحفاظ على رد ديبلوماسي قوي وزيادة الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا".

 

من جهته، وفي صحيفة "ذا هيل" الأميركية، توقع الباحث في الشؤون الروسية ليون أرون أواخر يناير ألّا يهاجم بوتين أوكرانيا لأنّه بالتحديد لاعب جودو. فبوتين يدرك أنّه نادراً ما يوقع الرياضيّ خصمه بالإطاحة الحاسمة بل يحدث ذلك في الغالب عبر مراكمة النقاط. وبما أنّ بوتين كان يراكم النقاط السياسيّة خلال الحشد العسكريّ على الحدود الأوكرانية ومن دون كلفة، رجّح أرون أن يتفادى الرئيس الروسي الحرب.

 

أين أخطأ؟

ربّما أقدم بوتين على الخطوة لأنّه لم يرَ أنّ النقاط التي كان يكسبها (استعداد الغرب مناقشة معاهدة جديدة للحد من التسلح في أوروبا مثلاً) كانت كافية بالنسبة إليه. وعلى الأرجح، شعر قبل الاجتياح بأنّ الخلافات بين الدول الغربية حول العقوبات التي يتوجب فرضها على روسيا تشي بإمكانيّة حصول تصدّع كبير يمنع الغرب من التضامن. علاوة على ذلك، ثمّة شبه إجماع على أنّ بوتين توقّع بشكل خاطئ انهيار الجيش الأوكرانيّ واستسلام كييف سريعاً بمجرّد دخول القوات الروسية أوكرانيا، بما يفرض أمراً واقعاً على الغرب يجعل ردّة فعله متأخّرة. وكتب البعض عن مقال وكالة "ريا نوفوستي" الروسية التي احتفلت بالانتصار بعد يومين على انطلاق الحرب.

لكن هذه المرّة، يبدو أنّ بوتين كان مخطئاً في تقديره. لقد شعر بنقاط ضعف في أوكرانية وغربية لم تكن موجودة أو على الأقلّ لم تكن كبيرة بالمقدار الذي تخيّله. الآن، يبدو أنّه كشف نقاط ضعف كثيرة في القوّات والاستخبارات الروسيّة إن لم يكن أيضاً في مجمل صناعة القرار الروسي. قدرة بوتين على معالجتها لتحسين وضع معركته في المرحلة المقبلة تبقى مثار تكهّن.

 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم