الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بعد أزمة أوكرانيا... هل يبدّل الغرب نظرته للقوّة؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
تدريبات لجنود روس - أ ب"
تدريبات لجنود روس - أ ب"
A+ A-

"ذات يوم، قال مارك توين ساخراً: "إنّ التقارير حول موتي مبالغ فيها إلى حد كبير". ينطبق الأمر نفسه على (التقارير عن موت) القوة الناعمة". هذا الاقتباس هو خلاصة جواب الأستاذ في جامعة هافارد جوزف ناي عن الأسئلة الكثيرة التي تلقّاها عن مآلات القوّة الناعمة، وهي المفهوم الذي طوّره سنة 1990 والذي حاول من خلاله سدّ الثغرات في تفكير المحلّلين عن القوّة عموماً. والأسئلة التي واجهت الكاتب وتناولها من خلال مقاله في موقع "بروجيكت سينديكيت"، دارت في إطار التشكيك بفاعليّة هذا المفهوم في حماية الولايات المتحدة والغرب من الأزمات التي يعيشانها اليوم بدءاً من كوريا الشمالية مروراً بتايوان وأفغانستان وصولاً إلى أوكرانيا.

ويذكّر مثلاً بأنّ الولايات المتحدة لا تزال متفوّقة على الصين في هذا المؤشّر وفي جميع القارّات باستثناء أفريقيا حيث تتعادل واشنطن وبكين. ويذكّر أيضاً بأنّ جدار برلين لم يسقط بفعل القذائف بل بفعل مطارق حملها أشخاص "لمستهم القوة الناعمة الغربية".

 

حدود المفهوم

يعدّ الحشد العسكريّ الروسيّ على الحدود مع أوكرانيا أبرز قضيّة ملحّة تواجه صنّاع القرار أو المراقبين الذين يتساءلون عن جدوى القوّة الناعمة. تتعرّض الولايات المتحدة لضغط روسيّ شديد، عبر القوّة الصلبة تحديداً، لوقف توسّع حلف شمال الأطلسيّ شرقاً. لكنّ المفاوضات بين الروس والغربيّين لا تسير نحو الحلحلة. في هذا الإطار، تبدو روسيا متفوّقة على الأميركيّين: استطاع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين دفع الرئيس الأميركيّ جو بايدن إلى عقد قمّتين معه (الأولى مباشرة والثانية افتراضيّة)، كما تمكّن من دفع الولايات المتحدة إلى التفاوض مع بلاده بشأن "ضمانات أمنيّة" في نشاطات الحلف شرقيّ أوروبا. بعبارة أخرى، استطاع بوتين أن يجرّ الغرب إلى تفاوض حول إعادة صياغة الهيكلة الأمنيّة بما يشبه المؤتمرات التي كانت تُعقد خلال الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة. وهذا الأمر لم يكن وارداً في الحسبان قبل سنوات قليلة. يجادل المراقبون الأميركيّون في مدى مشروعيّة المطالب الروسيّة.

على سبيل المثال، كتب الصحافيّ في "واشنطن بوست" دايفد إغناسيوس أنّ بعض مطالب روسيا مفهومة مثل تلك التي تتعلّق بأنظمة الصواريخ المنشورة على الأراضي الأوروبّيّة، مشيراً إلى أنّ رغبة روسيا بالشعور بالأمن داخل حدودها ليس أمراً غير منطقيّ. لكنّ رغبة روسيا المحتملة بإعادة كتابة التاريخ وبدفع الغرب للتعامل معها على أساس أنّها الاتحاد السوفياتيّ هي "أحلام رجعيّة مستحيلة" بحسب إغناسيوس. لكنّ استحالة أو عدم استحالة تلك الأحلام تحدّدها موازين القوّى، والقوّة الناعمة لن تكون في مقدّمة تلك الموازين على الأرجح.

 

"ثرثرة"

ينتقد البعض القادة الغربيّين لأنّهم استثمروا كثيراً في هذا المفهوم بينما كان بوتين يحقّق مكاسبه طوال الفترة الماضية. رأى الكاتب السياسي في صحيفة "وول ستريت جورنال" وولتر راسل ميد أنّ الأوروبيّين "ثرثروا" عن القوة الناعمة فقط كي يجدوا أنفسهم خارج إطار محادثات أساسيّة بين الولايات المتحدة وروسيا حول أوكرانيا. وانتقد أيضاً اعتبار الديبلوماسيّين الغربيّين بوتين "آثاراً بدائيّة لماضٍ مُهمَل" وقد ضاعوا في "ضباب نرجسيّ من التباهي الكبير". ومع إشارته إلى عدد من عناصر القوّة في روسيا وعوامل الضعف والارتباك في العالم الغربيّ، ذكر ميد أنّ "نجاح بوتين هو قياس للفشل السياسيّ والفكريّ الغربيّ". وتابع: "إلى أن ينهض القادة الغربيّون من ضباب وَهْمِ ما بعد التاريخ ويستعيدوا الفنّ المفقود للسياسة الخارجيّة الفعّالة، سيواصل (بوتين) تحقيق المكاسب على حسابنا".

يتبيّن الضعف الأميركيّ والغربيّ عموماً أمام روسيا في وقت يتفوّق الطرف الأوّل على موسكو في مؤشّر القوّة الناعمة لسنة 2021 وبفارق كبير. فالولايات المتحدة في المرتبة السادسة بينما روسيا في المرتبة الثالثة عشرة. وتحتلّ ألمانيا الصدارة، بينما حلّت الصين في المرتبة الثامنة. من الواضح أنّ ترتيب الدول على لائحة القوّة الناعمة لا ينعكس ترتيباً على مستوى تحقيق الطموحات الجيوسياسيّة، على الأقلّ ليس بالنسبة إلى جميع تلك الطموحات.

 

بين روسيا وأفغانستان

إنّ "ثرثرة" الغربيّين عن القوّة الناعمة لا يعني أنّ هذا المفهوم بات من الماضي. ربّما يأتي تحرّك بوتين واستعداده المحتمل لشنّ حرب ضدّ أوكرانيا بسبب علمه أنّ الشعب الأوكرانيّ يبتعد تدريجياً عن الفلك الروسيّ باتّجاه الفلك الغربيّ كما كتب إغناسيوس وآخرون. يُعزى أحد أسباب الابتعاد التدريجيّ عن روسيا إلى القوّة الناعمة التي يتمتّع بها الغرب (القيم الليبيراليّة والحقوقيّة وغيرها) التي تجذب الأوكرانيّين إليها. طبعاً ثمّة أسباب أخرى من بينها أخطاء محتملة لبوتين نفسه. على سبيل المثال، خاض الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي حملته الانتخابيّة من دون أن يولي أهمّيّة معيّنة لانضمام كييف إلى الناتو. لكنّ الوضع تغيّر اليوم.

كيفيّة سير المفاوضات بين روسيا والغرب حول "الضمانات الأمنيّة" بعيدة من أن تكون واضحة... ومن أن تكون مرتبطة مباشرة بالقوّة الناعمة. لكن ثمّة ما يثير الانتباه في الأزمات الدوليّة التي تواجهها الولايات المتحدة، ومنها أفغانستان. من الواضح أنّ الانسحاب الأميركيّ من هناك أضرّ بصورة الولايات المتحدة التي أعطت انطباعاً بأنّها دولة تتخلّى عن حلفائها. لكنّ مشهد الأفغان وهم يحاولون التعلّق بالطائرات الأميركيّة المغادرة مطار كابول يؤكّد أيضاً أنّ قسماً كبيراً من الأفغان – إن لم يكن القسم الأكبر بحسب استطلاعات الرأي – فضّل العيش تحت نموذج الحكم الأميركيّ عوضاً عن العيش تحت حكم "طالبان". وهذا تأثير واضح للقوّة الناعمة.

 

مشكلة الغربيّين عموماً

على الأرجح، كانت مشكلة الغربيّين والأوروبيين خصوصاً طوال العقود الماضية في التركيز على هذا العامل دون سواه من عوامل القوّة. لقد رفض الأوروبّيّون بغالبيّتهم زيادة الإنفاق الدفاعيّ بسبب تأثّرهم بالمفاهيم التي برزت بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ مثل "القوّة الناعمة" و"نهاية التاريخ" بانتصار الليبيراليّة (فرنسيس فوكوياما) إلى جانب أسباب أخرى. مع ذلك، لا تزال القوّة الناعمة جزءاً أساسيّاً في تأطير العلاقات الدوليّة. لكنّ إدراك هذا الواقع يقتضي عدم تحميل المفهوم أكثر من طاقته. لقد أوضح ناي في مقاله الأخير أنّ القوّة الناعمة ليست حتى المكوّن الأهمّ للقوّة. وهو يشدّد على أهمّيّة القوة الذكيّة التي تدمج النعومة بالصلابة. ربّما تعطي الأزمة الأوكرانيّة سبباً كافياً للغربيّين كي يعيدوا التوازن إلى مقاربتهم لهذا المفهوم. وحده الوقت يؤكّد أو ينفي ذلك. 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم