الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ألا تزال الديموقراطيّة الأميركيّة مرنة أمام الصدمات؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
مؤيّدون للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب يقتحمون الكونغرس، 6 كانون الثاني 2021 - "أ ب"
مؤيّدون للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب يقتحمون الكونغرس، 6 كانون الثاني 2021 - "أ ب"
A+ A-
"ليس حقّاً". هذا هو جواب الكاتب السياسيّ في صحيفة "نيويورك تايمس" روجر كوهين على سؤال طرحه بنفسه حول ما إذا أصبح كلّ شيء على ما يرام، عقب نهاية أحداث السادس من كانون الثاني. وتابع: "الفكرة الأميركيّة والقيم الأميركيّة – الديموقراطيّة، حكم القانون، الدفاع عن حقوق الإنسان – تعرّضت لاعتداء مستمرّ خلال رئاسة السيّد ترامب".

يعتقد كوهين، كما كثر، أنّ دول العالم ستنظر بعين تشكيكيّة إلى الولايات المتحدة حين تحاول الترويج للقيم الديموقراطيّة. عنوان مقال إيمّا آشفورد من "المجلس الأطلسيّ" في مجلّة "فورين بوليسي" حمل المخاوف نفسها: "ليس بإمكان أميركا الترويج للديموقراطيّة في الخارج. هي لا تستطيع حمايتها حتى في الداخل". وعلى الرغم من أنّها ليست من مؤيّدي الانسحاب الأميركيّ من العالم، تتساءل عن سبب الدعوة إلى "تحالف الديموقراطيّات" من أجل مواجهة الصين، "عوضاً عن محاولة إيقاف النزيف من الداخل".
 

لا تمرّ السياسة الداخليّة الأميركيّة في أفضل ظروفها، حتى منذ ما قبل اعتداءات السادس من كانون الثاني. مع ذلك، ثمّة حاجة إلى تأطير اقتحام الكونغرس في بعده الصحيح. هل شكّل الحدث صفعة للديموقراطيّة الأميركيّة؟
إذا كانت النظرة إلى الديموقراطيّة تنحصر في توصيفها كـ "قيمة ذاتيّة" فلا شكّ بأنّها تلقّت صفعة قويّة أو حتى "ندوباً دائمة" بحسب آشفورد. لكنّها قبل أن تكون "قيمة"، تُقدّم الديموقراطيّة نفسها كأداة للمجتمع من أجل حكم نفسه. وككلّ أداة، هي قابلة للتطوير والتعديل والقصور والتعطّل. هي أداة يستخدمها مجتمع يحاول جاهداً الخروج من طبيعته الفوضويّة وفقاً لنظرة المفكّر البريطانيّ توماس هوبس (1588-1679). لكن إذا كان من بديل عن المقترح الهوبسيّ بتخلّي المجتمع تعاقديّاً عن جميع حقوقه لصالح الحاكم ضماناً لتجنّب الفوضى، فهو الديموقراطيّة.

صحيح أنّ الأخيرة قطعت شوطاً كبيراً منذ انبلاجها في عصر الإغريق مروراً بتجارب الثورات الإنكليزيّة والفرنسيّة وقيام الدولة-الأمّة وصولاً إلى تأسيس الأمم المتّحدة ومواثيقها، لكنّ الطريق أمامها ستظلّ طويلة للتكيّف مع متطلّبات الشعوب. ومع تحدّيات العولمة ووسائل التواصل الاجتماعيّ وأزمات الهويّة والجوائح والبطالة، بالإمكان اعتبار أنّ الديموقراطيّة لا تزال، وربّما ستظلّ دوماً، في مرحلة الفتوّة. "طراوة العود" هذه تفسّر أحداثاً كالتي شهدها الكابيتول. ليس الاقتحام حدثاً عابراً في الولايات المتّحدة. لكنّ تحويله إلى دراما أبوكاليبتيّة بالنسبة إلى الديموقراطيّة الأميركيّة يعجّ بالمبالغات.

حتى إشعار آخر، أثبتت الديموقراطيّة الأميركيّة أنّها مرنة أمام الصدمات. صحيحٌ أنّ صدمة السادس من كانون الثاني كانت استثنائيّة بالمقاييس الأميركيّة، لكنّ خاتمتها اتّسمت بما كان متوقّعاً: المصادقة على جو بايدن رئيساً. على الرغم من كلّ الادّعاءات أو التكهّنات بقدرة ترامب على إشعال الشارع، برهنت الأحداث أنّ الرئيس المنتهية ولايته مجرّد "بطّة عرجاء" على مستوى الحكم، لكن أيضاً على مستوى الميدان. هذا ما أظهرته دعواته إلى التهدئة والتذكير بأنّ الحزب الجمهوريّ هو "حزب النظام والقانون" وتهديده بالاقتصاص من المرتكبين. أكان ذلك بمحض إرادته أم بسبب تركه وحيداً في نهاية المطاف، لا يؤثّر كثيراً في النتيجة. لم تنفع جميع الضغوط بدفع نائبه مايك بنس إلى إيقاف جلسة فرز الأصوات وإعادتها إلى الولايات. قال بنس في كلمته إنّه أقسم على حماية الدستور وأنّ الأخير لا يعطيه صلاحيّة البتّ بصحّة الأصوات.
 

كوهين نفسه أشار إلى كلمة الرئيس الفرنسيّ إيمّانويل ماكرون تعليقاً على أحداث الكونغرس والتي لمّح فيها إلى أنّ الولايات المتّحدة أكبر من رجل واحد، مستشهداً بكيل الديبلوماسيّ الفرنسيّ ألكسيس دي توكفيل (1805-1859) المديح للديموقراطيّة الأميركيّة. ترى آشفورد أنّ المؤسّسات الأميركيّة صمدت أمام التحدّيات الداخليّة إلى اليوم، لكن ما من ضمانة في أنّها ستصمد مستقبلاً. غير أنّ زميلها في "المجلس الأطلسيّ" نفسه ورئيسه فريديريك كمبه لم يستبعد احتمال أن تكون صدمة الكابيتول دافعاً للقادة المنتخبين كي يدركوا أهمّيّة وضع خلافاتهم جانباً للدفاع عن المكاسب الهشّة التي حصّلتها الديموقراطيّة الأميركيّة. وأضاف أنّ الأخبار الجيّدة التي لم يحجبها حدث الكابيتول هو أنّ أكبر عدد من الأميركيّين على الإطلاق قد انخرطوا في الديموقراطيّة عبر المشاركة في الانتخابات الأخيرة والتي أفرزت فوز بايدن.
 

ليس هدف الديموقراطيّة إيصال الأكفأ إلى السلطة بل إيصال من تريده الأغلبيّة بصرف النظر عن صفاته. لكن بالنظر إلى ما تسمح به من تداول للسلطة، هي تساعد الشعب على تصحيح خياراته عبر التعلّم من تجاربه. كذلك، ليس بإمكان الديموقراطيّة منع أعمال الشغب بالكامل. الجملة الشهيرة لونستون تشرشل التي قالها في إحدى الجلسات البرلمانيّة سنة 1947 تقفز مجدّداً إلى الواجهة مع أحداث الكابيتول:

"تمّت تجربة العديد من أشكال الحكومة، وستتمّ تجربتها في عالم الخطيئة والأسى هذا. لا أحد يدّعي أنّ الديموقراطيّة مثاليّة أو كلّيّة الحكمة. بالفعل لقد قيل إنّ الديموقراطيّة هي أسوأ شكل من الحكم باستثناء جميع تلك الأشكال الأخرى التي تمّت تجربتها من وقت إلى آخر". ويذكّر كلام تشيرشل بأنّ هنالك فارقاً شابعاً بين ما وُجدت الديموقراطيّة لأجله وبين ما يتوقّعه الناس منها.

كثيرة هي الإشكاليّات المرتبطة بالديموقراطيّة. والنقاش حولها، في الولايات المتّحدة أو خارجها، سيظلّ مفتوحاً طالما أنّ البشريّة في مسعى دؤوب نحو الارتقاء في أسلوب الحكم. ما حصل في 6 كانون الثاني ليس عاديّاً. لكنّه أيضاً ليس مدعاةً لترويج "انهياريّة" معيّنة في الديموقراطيّة الأميركيّة. مرّت الولايات المتّحدة أمام تجارب أخطر هدّدت مؤسّساتها، من الحرب الأهليّة إلى 11 أيلول إلى الأزمات الماليّة. من الطبيعيّ أن تتخطّى اقتحام الكابيتول، على ما في الحدث من رمزيّة كبيرة.
 

وجّه الديموقراطيّون انتقادات كثيرة إلى الجمهوريّين الذين دافعوا عن ترامب طوال فترة ولايته، قائلين إنّهم شرّعوا جميع سلوكيّاته. واتّهموا المشرّعين الجمهوريّين بأنّهم يسعون إلى حشد التأييد الشعبيّ لهم "ونيل بركة" ترامب على طريق الترشّح إلى الانتخابات الرئاسيّة المقبلة. بصرف النظر عمّا إذا كان هذا الاتّهام صحيحاً، وقد يكون كذلك في جزء منه، يبقى أنّ كبار الجمهوريّين في الكونغرس تراجعوا عن دعم رئيسهم حين وجدوا أنفسهم أمام خيارٍ من اثنين: الدستور أو ترامب. ولم يختر هؤلاء الدستور على حساب ترامب وحسب، بل أيضاً على حساب حظوظهم الرئاسيّة في 2024. ما انتصر هنا ليست الديموقراطيّة على مستوى المؤسّسات وحسب، بل الأهمّ، على مستوى الثقافة.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم