خسارة روسيا في أوكرانيا ليست مكسباً حتمياً لأوروبا

تلقّت طموحات روسيا الدولية ضربة قوية بفعل إخفاقها العسكري في أوكرانيا. مهما كان الهدف الروسي من الغزو، الاستيلاء على كييف أم فقط على دونباس، فهي فشلت على كلتا الجبهتين. يأتي ذلك على الرغم من أنّه كان لروسيا أكثر من شهرين لتحقيق أيّ خرق ولو رمزيّاً، كالسيطرة الكاملة على مدينة ماريوبول مثلاً. إنّ الوصول إلى موعد التاسع من أيار من دون إمكانية تقديم ما يمكن تصويره على أنّه انتصار عسكريّ أو سياسيّ بارز لن يلبّي طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن أبعد من مجرّد غياب ما يبرّر اللحظات الاحتفالية الرمزية أو ما يجدّد مشروعيّتها المعنويّة، ثمّة مشاكل أكثر أهمية تلوح في الأفق بالنسبة إلى الكرملين.

 

خسارة روسية في أوروبا

لطالما أمّنت روسيا امتدادات لسياساتها في أوروبا أكان عبر دعم اليمين المتطرف/الشعبوي أو عبر صادراتها من الطاقة أو عبر ربط شرق أوروبا بنزاعات شبه مجمّدة، كما كانت الحال مع أوكرانيا وجورجيا وترانسنيستريا. كسرت أوكرانيا الأداة الأخيرة من خلال إظهار أنّ فكّ النزاعات المجمّدة بالقوّة ليس أمراً مستحيلاً. بطبيعة الحال، توصّل الغرب إلى هذه النتيجة أو يكاد، عن طريق الصدفة. لم يكن الأوروبيون أو الأميركيون يتوقعون أنّه يمكن إضعاف الآلة العسكرية الحربية لروسيا بشكل مباشر. بالتالي، كانت التسوية مع موسكو السبيل الوحيد لضمان أمن أوروبا.

لو عرف الغرب مسبقاً بنقاط الضعف الكثيرة التي يعاني منها الجيش الروسي لما قبل بجرّ موسكو لقادته إلى جلسات حوار مطوّلة، فردية وجماعية، بين يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 2022 للاستماع إلى مطالبها. عمليّاً، كان التهديد الروسي باستخدام القوة أكثر فاعلية من استخدام القوة نفسها. على الرغم من أنّ جلسات الحوار بين الغرب والروس لم تؤدِّ إلى تنازلات جوهرية في ما يتعلق بسياسة "الأبواب المفتوحة" للناتو أو بحقّ الشعوب الأوروبية في تقرير مصيرها ومصير تحالفاتها، يبقى أنّ موسكو نجحت في دفع الغرب إلى مناقشة هيكلية أمنية جديدة لأوروبا.

بدا الأميركيون والأوروبيون أمام ما يشبه مؤتمر "يالطا" جديداً لكن هذه المرة من دون الحرب، أو على الأقل قبل وقوعها. الاستعداد نفسه لهذه المناقشة كان نتيجة مباشرة للخوف ممّا يمكن أن يقدم عليه الجيش الروسي. اليوم، قضت أوكرانيا على ذلك الانطباع أو حجّمته إلى حدّ بعيد. بطبيعة الحال، لا تزال روسيا قوة نووية. لكنّ التلويح بالرؤوس النووية ليس كافياً وحده للارتقاء إلى مصافّ الولايات المتحدة والصين. وقد لا يكون كافياً أيضاً لرسم واقع أمنيّ جديد في أوروبا الشرقية.

خسرت روسيا الكثير في الحرب على أوكرانيا. وإمكانية تعويض تلك الخسائر في الأشهر المقبلة ليست مؤكّدة حتى ولو سيطرت على كامل منطقة دونباس، وهو أمر بدا منطقياً وبديهياً لأشهر طويلة بالنظر إلى الغياب الفاقع في التوازن بين القوتين. لكنّ الخسارة التي منيت بها روسيا في أوكرانيا، وعلى الأرجح في أوروبا، لا تعني بطريقة آلية أنّ بروكسل استطاعت بالمقابل تحقيق مكاسب حاسمة.

 

قوّتان متراجعتان

من ناحية أولى، ليست بروكسل نفسها عبارة عن قيادة أوروبية متجانسة. لعلّ الاختلاف التاريخيّ والثقافيّ بين الدول الأوروبية حتّم أن تكون الانقسامات الداخلية حاجزاً أمام تحقيق هذه المكاسب، مع أو بدون إخفاق روسيّ في أوكرانيا. ثمّة سؤال وجيه عن تداعيات أيّ تراجع للنفوذ الروسيّ في أوروبا. من سيغطّي هذا التراجع؟

ببساطة لا أحد. بالحد الأدنى في المستقبل القريب. هذا ما يستنتجه أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الكاثوليكية الأميركية جايوب غريجييل. كتب الأخير في مجلة "فورين بوليسي" أنّ روسيا وألمانيا باتتا خارج الخريطة السياسية الأوروبية بعدما طمحتا إلى أن تكونا حكَمَي أوروبا. فألمانيا تعرّضت لانتقادات قاسية بسبب موقفها الخجول من دعم أوكرانيا وترددها المستمر إزاء تحويل أسلحة ثقيلة إلى كييف. ترافق ذلك على الأرجح مع مواصلة القوى الداخلية في ألمانيا تفضيلها استرضاء روسيا وشراء الغاز الرخيص. اعتمدت ألمانيا هذه السياسة طوال أكثر من عقد وعلى حساب دول أوروبا الشرقية. حتى فرنسا تراجعت بحسب نظرة غريجييل مع إخفاق ديبلوماسيتها التي بدت "ساذجة" في أفضل الأحوال وذات مصلحة "شخصية" في أسوئها على اعتبار أنّها تريد ترسيخ موقعها في الصراع "على حساب أوكرانيا". من جهة ثانية، يعتقد غريجييل أنّ دور بولونيا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى تصاعد في أوروبا.

 

"فراغ"

من المفارق أن تكون بريطانيا التي أعلنت الطلاق عن الاتحاد الأوروبي أكثر اهتماماً بمصيره الأمني من اهتمامات نواته في هذا المجال: ألمانيا وفرنسا. ربما يمكن إرجاع أحد أسباب ذلك إلى الصدام الروسي-البريطاني المباشر بسبب قضية تسميم سرغي سكريبال على الأراضي البريطانية. حتى فرنسا بدت، كما ألمانيا، متردّدة في دعم أوكرانيا عسكرياً. لكنّ بريطانيا قد تكون أقلّ اهتماماً بالانخراط المباشر في سياسات أوروبا بعد نهاية الحرب الروسية على أوكرانيا. في نهاية المطاف، يؤيّد البريطانيون السمة "العالمية" لبلادهم (Global Britain) أكثر من السمة "الأوروبية". من جهة ثانية، وعلى الرغم من أهمية القيادة التي أظهرتها بولونيا في مواجهة روسيا، يصعب تخيّل أن تتمتّع بدور قياديّ في الاتحاد الأوروبي بما أنّ القوة الاقتصادية تنقصها إلى حدّ بعيد. كذلك، اتّهمت أوروبا الغربية السلطات البولونية بانتهاك حكم القانون والقيم الليبيرالية خلال السنوات القليلة الماضية. لكن على الصعيد الأمنيّ، لا شكّ في أنّ تحذيرات وارسو (ودول الجناح الشرقي للناتو) من تواصل برلين وباريس مع موسكو بدت صائبة بعد الحرب الأخيرة.

حتى العودة الأميركية إلى القارة الأوروبية قد لا تكون لفترة طويلة بالنظر إلى انشغال واشنطن بمنطقة الإندو-باسيفيك وهو أمر يقرّ به غريجييل. أظهرت الحرب على أوكرانيا أنّ النظام الأوروبي، لا النظام الدولي وحده، مقبل على التغير. ملامح خريطة توزيع القوى في القارة العجوز لا تزال ضبابية اليوم. إذ ليس واضحاً على سبيل المثال، ما إذا كان بإمكان فرنسا أو ألمانيا استعادة شيء من تأثيريهما مع زيادة الدعم التي تعهّداها مؤخراً لأوكرانيا. وبداية عودة الدفء إلى العلاقات بين أوكرانيا وألمانيا بدت لافتة هي الأخرى. رأى غريجييل أنّ الحرب على أوكرانيا تركت "فراغاً". على الأقلّ، ثمّة مؤشّرات قويّة تدعم رأيه. لكنّ معرفة مدى استمرار هذه المؤشّرات ليست بالمهمّة اليسيرة.

 
*نُقل عن "النهار العربي"