الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في يوبيلها الذهبيّ... الإمارات ولحظة نيكسون الصينيّة

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
الإمارات تحتفي بيوبيلها الذهب (أ ف ب).
الإمارات تحتفي بيوبيلها الذهب (أ ف ب).
A+ A-

في 14 أيلول الماضي، كتب الصحافيّ دايفد إغناسيوس مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" يوضح فيه كيف كانت الإمارات تنتقل من "إسبرطة الصغيرة" إلى "سنغافورة الصغيرة". يُنسب وصف "إسبرطة الصغيرة" إلى وزير الدفاع الأسبق جايمس ماتيس حين كان رئيساً للقيادة المركزية سنة 2011. ووافقه على التوصيف لاحقاً عدد من المراقبين. الباحث البارز في "معهد المشروع الأميركي" كينيث بولاك وضع أفضل الوحدات العسكرية الإماراتية على قدم المساواة مع العديد من الجيوش الأوروبية، في دراسة له نُشرت سنة 2020. وبين 2010 و 2019، حلّت الإمارات في المركز الخامس عالمياً كأكبر مستورد للسلاح بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.

سرد إيغناسيوس عدداً من المحطّات التي استوجبت تحوّلاً في السياسة الخارجيّة الإماراتيّة التي باتت تعتمد على مفهوم "صفر مشاكل" كما قال وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش. من أهمّ هذه التطوّرات شعور الإمارات بـ"تآكل" القوة الأميركية في المنطقة. علاوة على ذلك، تتطابق سياسة الإمارات الخارجية مع السياسة الخارجية الحاليّة لمعظم دول العالم ومن ضمنها الولايات المتحدة، والقاضية بتفادي "الحروب التي لا تنتهي" لصالح التركيز على التنمية الداخلية. وهذا ما يلخّصه شعار بايدن الانتخابي "فلنُعدِ البناء بشكل أفضل". ونقل الصحافيّ عن مسؤول إماراتيّ قوله إنّ الإمارات تطمح الآن إلى وصف أقرب لـ"سنغافورة الصغيرة".

 

"دعوة للضواري"

من نافلة القول إنّ تسليط الضوء على توصيف كهذا يراكم قوّة الإمارات الناعمة التي تزداد سنويّاً، بحسب "مؤشّر القوة الناعمة" حيث باتت الإمارات تحتلّ المرتبة 17 عالميّاً والأولى عربيّاً. لكنّ هذا التوصيف ليس فكرة جديدة أو مفهوماً قيد التجربة بالنسبة إلى الإماراتيين. ولا هو يعبّر عن "تحوّل" في السياسة الخارجيّة الإماراتيّة. فالتعاون بين الإمارات وسنغافورة يعود إلى زمني تأسيس الدولتين، مع العلاقات الوطيدة التي جمعت الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ورئيس الحكومة السنغافوري السابق لي كوان يو. ولطالما تبادلت الدولتان إضافة إلى الرؤى نفسها، التعاون في مجالات اجتماعيّة شتّى. إذاً، ليست سنغافورة نوعاً من "الاكتشاف الحديث" الذي تحاول الإمارات محاكاته. بمعنى آخر أيضاً، ليس ثمّة انتقال من حقبة "إسبرطيّة" إلى أخرى "سنغافورية" عبر سياسة "صفر مشاكل". لقد أطلقت الإمارات منذ فترة طويلة – تسبق تضاؤل الاهتمام الأميركيّ بالشرق الأوسط – مساراً لدمج القوّة الصلبة بالقوّة الناعمة.

يحتّم الموقع الجغرافيّ للإمارات اعتماد هذا الدمج. تتمتّع سنغافورة بمزيّة جغرافيّة لا تتمتّع بها الإمارات. الدولة-الجزيرة غير قريبة من دول "تنقيحيّة" تمارس نفوذها عبر إسقاطات إيديولوجيّة أو إمبراطوريّة عابرة للقارّات. وفي هذا السياق، ليس صحيحاً أن السياسة الخارجيّة الإماراتيّة الحاليّة هي فقط ناجمة عن خلاصة ما اختبرته البلاد خلال السنوات الماضية. في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، يوضح الباحث الإماراتيّ الدكتور منصور النقيدان كيفيّة تجسيد احتلال عراق صدام حسين للكويت لحظة مفصليّة في التخطيط الاستراتيجيّ الذي رافق القيادة الإماراتيّة عقوداً طويلة. لقد كان احتلال العراق للكويت تجسيداً للمثل الإنكليزيّ القائل "حين تكون ضعيفاً فأنت ترسل دعوة للضواري" بحسب النقيدان.

بهذا المعنى، كانت "إسبرطة الصغيرة" ضرورة لعدم إرسال "هذه الدعوة" وسط منطقة تضمّ دولة كإيران ينصّ دستورها على "تصدير الثورة الإسلامية" وتركيا التي تسعى إلى استنهاض "أمجاد الإمبراطوريّة العثمانيّة". ودعم أنقرة (وقبلها طهران) للثورات العربيّة، مثّل أحد جهود هاتين الدولتين في توسيع طموحاتهما الإمبراطوريّة بشكل أو بآخر. لكن طالما أنّ هاتين الدولتين تشكّلان خطراً على الإمارات ورؤيتها للمنطقة، لماذا اختارت الانفتاح عليهما؟

 

لحظة نيكسون الصينية

يمكن قياس الانفتاح الإماراتيّ على أنقرة وطهران بانفتاح الرئيس الأميركيّ الأسبق ريتشارد نيكسون على الصين والذي تكاد ذكرى زيارته لها تبلغ عامها الخمسين. في الولايات المتحدة، هيمن اعتقاد كبير بأنّ رئيساً متشدّداً مثل نيكسون هو الوحيد القادر على سياسة التواصل هذه بما أنّه لن يقدّم أيّ تنازلات أميركيّة استراتيجيّة لبيجينغ. طبعاً كانت هنالك حسابات أخرى متعلّقة بخلق أو زيادة الشرخ بين الصين والاتحاد السوفياتيّ. لكن باختصار كانت الفكرة الأساسيّة تكمن في أنّ الولايات المتحدة تنفتح على الصين من موقع قوّة. ثمّة الكثير من نقاط التشابه بين السياسة الأميركيّة في السبعينات، والسياسة الإماراتيّة اليوم.

بالرغم من كلّ خطابات القوّة الصادرة عن أنقرة وطهران، تعتري الدولتان نقاط ضعف كثيرة. في تركيا، تتعرّض شعبية الحزب الحاكم للتآكل بشكل مستمرّ حتى وصلت في تشرين الأول إلى ما بين 31-33% بعدما كانت 42.6% في 2018. وشعبيّة الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان التي كانت محصّنة إلى حدّ ما قياساً بشعبيّة حزبه تلقّت ضربات خلال الأشهر الأخيرة الماضية حيث وصلت إلى 38% في آب 2021 وهي الأدنى في ست سنوات. وللمرة الأولى في سنوات عدة، يعتقد الأتراك أنّ إردوغان سيخسر الانتخابات بحسب مؤسسة "ميتروبول" للاستطلاعات. لا تعني كلّ هذه الأرقام أنّ إردوغان خاسر حتماً في الاستحقاق المقبل (2023)، لكنّ قوّته بالتأكيد لم تعد كما قبل، مع استمرار تدهور الاقتصاد والعملة الوطنيّة. ووضع إيران ليس أفضل بكثير. فنفوذها يتراجع في الإقليم، كما أنّ الاضطرابات والاحتجاجات أصبحت سمة من سمات المجتمع الإيرانيّ خلال السنوات الماضية، وآخرها التظاهرات التي شهدتها محافظة أصفهان منذ أيام قليلة. علاوة على ما تقدّم، اختارت الإمارات سياسة الانفتاح على تركيا وإيران في وقت لقيت حركات الإسلام السياسيّ التي شكّلت امتداداً ولو متفاوتاً للتأثيرين التركيّ والإيرانيّ في المنطقة، هزيمة كبيرة. بالتالي، تنطلق الإمارات اليوم، كما الولايات المتحدة أمس، من موقف قوة عند الانفتاح على الخصوم.

 

أبعد من سياسات التخيير

إنّ سياسة "صفر مشاكل" قد تكون بديهيّة في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركيّ (البطيء) من المنطقة. لكنّها بالنسبة إلى الإمارات لم تكن سياسة مرتبطة فقط بما تفعله أو لا تفعله الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إنّ دولة جعلت نفسها مركزاً للتجارة والاستثمارات والتكنولوجيا المتقدّمة واقتصاد المعرفة لا بدّ وأن يكون مبدأ "صفر مشاكل" إحدى ركائز سياستها الخارجيّة. لكن بالنظر إلى موقعها الجغرافيّ، لا يمكن لهذا المبدأ أن يكون ركيزتها الوحيدة، بالرغم من مثاليّته في نواحٍ عدّة. فالإمارات ليست اليوم أمام مفاضلة بين أن تكون "إسبرطة" أو "سنغافورة". من حيث المبدأ، قد لا يستسيغ الإماراتيّون كثيراً فكرة المفاضلات الثنائيّة.

خلال جائحة "كورونا"، وفي حمأة الجدال الغربيّ حول ما إذا كان يجب إعطاء الأولويّة للصحّة أو الاقتصاد، رفضت الإمارات فكرة حصرها بين هذين الخيارين، فأبدت قناعة راسخة بإمكانيّة حماية القطاعين معاً. اليوم أيضاً، لن تُخيّر الإمارات بين "إسبرطة" و"سنغافورة". رهانها الدائم أن تنجح في المواءمة بين المقتضيين.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم