الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حكم آخر على ساركوزي... هل نجت "سفينة حكم القانون"؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي - "أ ف ب"
الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي - "أ ف ب"
A+ A-

في آذار 2021، صدر حكم بحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بالسجن ثلاث سنوات مع وقف تنفيذ لسنتين بسبب إدانته بمحاولة تقديم رشوى وظيفية لقاضٍ مقابل الحصول على معلومات في تحقيق قضائي. حينها أبدت مجلّة "إيكونوميست" تفاؤلاً بالمسار القضائي الفرنسي الذي اقترب من إرساء ثقافة معاملة كبار المسؤولين الفرنسيين ومواطنيهم بمعيار واحد. بعد ستة أشهر، صدر حكم آخر بحق ساركوزي في قضية تمويل حملته الانتخابية سنة 2012. إنها خطوة ثانية على طريق نزع الشعور بالحصانة الذي يتمتع به الرؤساء الفرنسيون.

بدا ساركوزي مرتاحاً السبت وهو يوقّع نسخاً من كتابه "نزهات" في دار نشر "لامارتين" التي تحتضنها العاصمة الفرنسية. عبّر كثر من الحاضرين عن دعمهم له فتشكّرهم قائلاً إنّ الأمر "مؤثّر جداً ومطمئن جداً، على مستوى معنويات البلاد. الناس غير مخدوعين".

من المرجّح أن تفرض عليه المحكمة ارتداء جهاز إلكترونيّ للتعقّب داخل منزله وهو في الإقامة الجبرية، بدلاً من السجن. ولا يزال بإمكان ساركوزي استئناف الحكم وهو ما سيفعله بحسب محاميه تييري هيرزوغ. وهذا ما فعله في القضيّة الأولى. بدأت الشبهة حول الإنفاق الانتخابي سنة 2014 حين كشفت التحقيقات أنّ ساركوزي أنفق أكثر من 54  مليون دولار على حملته الانتخابية، علماً أنّ سقف الإنفاق بموجب القوانين الفرنسية هو 24 مليون دولار. وقال مدير حملة ساركوزي غيوم لامبير إنّهم حصلوا في آذار 2012 على المذكرة الأولى من محاسبيهم والتي يحذّرونهم فيها من اقترابهم سريعاً من الحدود وحثّوهم "على تصحيح المسار".

وقال المدعون العامون إنّ ساركوزي أنفق ببذخ على حملاته وخصوصاً التجمعات والمناسبات ثمّ حاول إخفاء التكاليف عبر التعاقد مع شركات علاقات عامة من بينها شركة تدعى "بيغماليون" لمحاولة إدخال هذه النفقات في حسابات الحزب لا في حسابات حملته الشخصية. لهذا السبب، تُعرف القضيّة الحاليّة بـ"قضيّة بيغماليون".

وقالت المحكمة في باريس إنّه يمكن أن يكون ساركوزي غير مدرك لكامل تفاصيل عملية الاحتيال لكن لا بد من أنّه رأى كيفية انتهاك الحدود ولم يقم بأي شيء حيال ذلك. والحكم الصادر أعلى من طلبات الادعاء الذي اقترح عقوبة بالسجن لسنة مع وقف التنفيذ لمدة ستة أشهر.

 

إرثه وموقعه

لا يزال ساركوزي يحظى بدعم شعبي وحزبي في قضيته. المقرّبون منه يصفون ما يتعرّض له بـ"مطادرة الساحرات"، وهو توصيف كان يستخدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزاء التحقيقات التي طالته. و"الجمهوريون" أيضاً أصدروا بيان دعم له. ويطلق البعض على ساركوزي لقب "تاتشر الفرنسي" بالنظر إلى إصلاحاته الليبيرالية.

قد يكون الحكم الثاني بحق ماكرون أخف تأثيراً من حكم آذار الذي أرسل صدمة أكبر في فرنسا بين الطبقة السياسية كما ذكرت "إيكونوميست". الشعور بالحصانة انهار لديها منذ ذلك الحين. بالمقابل، يرى مؤيدو ساركوزي في "قضية بيغماليون" تأكيداً لنظرتهم بأنّ الرئيس الأسبق مستهدف.

لكنّ المجلة البريطانية تؤكّد أنّ التاريخ سينظر إلى ساركوزي من زاوية هذين الحكمين وهذا ما سيضرّ بإرثه. وهي تتوقّع أيضاً أن يأخذ "الجمهوريون" مسافة من ساركوزي في وقت لاحق مع احتدام الانتخابات. والمتضرّر الأكبر بشكل عام هي "كل الطبقة السياسية" التي ستتلقى هجوماً من أقصى اليسار واليمين. من جهة ثانية، تتوقّع "رويترز" أن يتضاءل حجم نفوذه ويؤدي دوراً أكثر حيادية في الانتخابات المقبلة.

 

ضمانة هشّة

في أيار الماضي، ذهبت مجلة "بوليتيكو" بعيداً في تحليلها للقضايا التي تلاحق ساركوزي حتى تساءلت عن حجم الفساد في كل المشهد السياسي الفرنسي. لقد لاحقت تهم أو محاكمات الفساد سياسيين كثراً وصولاً حتى شارل ديغول الذي موّل حملته الانتخابية من مستعمرات فرنسا الأفريقية. منذ ذلك الحين، برزت قوانين لتنظيم الإنفاق الانتخابي. جميع الأطياف السياسية أدينت بمحاولة التهرب من تلك القواعد باستثناء حزب "فرنسا إلى الأمام". لكن أكثر المتورطين كانوا من اليمين الوسط. ونقلت المجلّة عن أحد مستطلعي الرأي قوله إنّ 75% من الفرنسيّين يعتقدون أنّ السياسة فاسدة، وهم لا يميّزون كثيراً بين جمع التبرعات الحزبية والثروة الشخصية. مع ذلك، نادراً ما أدّت أي إدانة أو شبهة فساد حول زعيم سياسي إلى تراجع شعبيته.

ربّما تعود هذه الظاهرة إلى فقدان الفرنسيين ثقتهم بإمكانيّة تصحيح المسار السياسيّ للأحزاب التقليدية، ولهذا السبب، حصر الفرنسيّون اهتمامهم بالبرامج الانتخابية أكثر من الصلاح الشخصيّ للمرشّحين. وارتفاع شعبيّة "مناهضي المؤسّسة" من أقصى اليمين (مارين لوبان) والوسط الجديد (إيمانويل ماكرون) هو نتيجة لخيار جديد يمكّن الفرنسيّين من الاقتراع للبرنامج والأمل بالتخلّص من الفساد معاً عبر التصويت لأحزاب جديدة. لكنّ هذا الخيار ليس ضمانة مطلقة لسببين على الأقلّ: الأوّل هو أنّ "مناهضي المؤسّسة" أنفسهم غير معصومين من شبهات الفساد، وفي الواقع، إنّ لوبان وميلاشون ملاحقان قضائياً بتهم كهذه، علماً أنّهما ينفيان أي ضلوع لهما في هكذا أعمال. أمّا السبب الثاني فهو أنّ الضمانة الفعليّة هي في يد القضاء لا السياسة. وربّما هنا تكمن أهمّيّة الحكم الأخير في قضيّة بيغماليون: مراكمة الفرنسيّين ثقتهم بالسلطة القضائية قبل السلطة التنفيذية.

 

"سفينة الديموقراطية"

عامل الثقة هو ما يلفت النظر إليه ناشر صحيفة "دي تسايت" الألمانية جوزيف جوف حين علّق على الحكم الذي أنزلته المحكمة الفرنسية على ساركوزي في آذار. فهو استشهد بما قاله كبير المدعين الماليين عن الأهمية الرمزية لقضية تشمل "رئيساً سابقاً للجمهورية كان يوماً الضامن لقضاء مستقل". إنّ أحكاماً كهذه تعني بالنسبة إلى جوف أنّ "سفينة الديموقراطية لا تغرق، بل تمضي قدماً، مهما كانت الرياح المعاكسة قوية. حكم القانون وفصل السلطات، المنصوص عليهما في كل دستور غربي، يبقيان قويين، حتى في الأوقات العصيبة".

يكفي أن يصدر حكمان بدائيان بالسجن على رئيس فرنسي أسبق في أقل من سنة، كي يتردّد أيّ مرشّح رئاسيّ مستقبليّ قبل انغماسه في أعمال مشبوهة. في نهاية المطاف، لن يدخل ساركوزي السجن. لكنّ الكلفة السياسيّة لأحكام كهذه أكبر من كلفتها القضائية أحياناً كثيرة. هل تغيّرت الثقافة السياسيّة في فرنسا خلال الأشهار القليلة الماضية كما توقّعت "إيكونوميست"؟ الجواب النهائيّ متروك للسنوات المقبلة، وإن كانت المؤشّرات الأوّليّة مشجّعة.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم