هل ترتدّ أحداث الكابيتول نحو أوروبا؟
14-01-2021 | 16:54
المصدر: "النهار"
حين اقتحم متظاهرون مؤيّدون لترامب الكابيتول، سارع المسؤولون الأوروبيون إلى شجب الأحداث قائلين إنّ الولايات المتحدة التي شاهدوها في السادس من كانون الثاني ليست أميركا التي يعرفونها. رأى منسّق السياسة الخارجيّة الأوروبّيّة جوزف بوريل في تغريدة أنّه "بنظر العالم، تبدو الديموقراطيّة الأميركيّة الليلة تحت الحصار". وبعدما وصف الأحداث بالاعتداء غير المسبوق ضد حكم القانون، أضاف: "هذه ليست أميركا. يجب احترام نتائج انتخابات 3 تشرين الثاني بالكامل".
من جهته، وصف رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون الاعتداء بـ"المعيب" أما نظيره الهولنديّ مارك روته فوصفها بالـ"فظيعة". الرئيس الفرنسيّ إيمّانويل ماكرون قال أيضاً إنّ ما حدث في العاصمة الأميركيّة "ليس أميركا، حتماً". من جهتها، أعربت المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل عن "غضبها وحزنها" بسبب ما حصل ملقية جزءاً من اللوم على ترامب.
المفارقة
من بين أكثر التعليقات تعبيراً عن أنّ ما حصل في الولايات المتّحدة ليس شأناً أميركيّاً بحتاً، غرّد وزير خارجيّة ألمانيا هايكو ماس كاتباً أنّ "أعداء الديموقراطية سيكونون مسرورين لرؤية هذه الصور المشينة". قارنَ ماس بين اعتداء أنصار ترامب على الكونغرس، ومحاولة اقتحام مواطنين ألمان مبنى البرلمان الألمانيّ في آب 2020. وأضاف: "تتحوّل الكلمات الملتهبة إلى أعمال عنف – على درجات مبنى الرايخشتاغ، والآن في الكابيتول. ازدراء المؤسّسات الديموقراطية مدمّر". وتابع: "على ترامب ومؤيّديه القبول أخيراً بقرار الناخبين الأميركيّين والتوقّف عن الدوس على الديموقراطية".
في 29 آب، كانت هنالك دعوة للتظاهر في ألمانيا ضدّ الإغلاق العام المفروض لمواجهة "كورونا". تمكّنت مجموعة من المتظاهرين الذين يحملون أعلام ألمانيا القيصريّة التي ألهمت النازيّين من تجاوز عناصر قوّات الشرطة حتى وصلت إلى مدخل مقرّ البرلمان. وتمّت تفرقتها بعد فترة قصيرة. بالتالي، لا تكمن المفارقة في احتمال انتقال الاعتداءات على رموز الديموقراطيّة من الولايات المتحدة إلى أوروبا فقط، بل العكس أيضاً. لقد نشأت الشعبويّة التي تولّد مثل هذه الظواهر في أوروبا أوّلاً قبل عبورها المحيط الأطلسيّ باتّجاه الولايات المتّحدة. فالتيّارات المناهضة للهجرة وتصاعد أحزاب اليمين المتطرّف (البديل من أجل ألمانيا مثلاً) واختيار بريطانيا الانفصال عن الاتحاد الأوروبّيّ هي أحداث سبقت وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض. ويمكن قول الأمر نفسه عن مناهضة الليبيراليّة في دول مثل المجر وبولونيا.
نقاط اختلاف وتشابه و"سلفي"
في الظاهر، ثمّة نقاط اختلاف بين المشهدين. داخل ألمانيا كانت الحشود مناهضة لإجراءات الإغلاق في وجه "كورونا". أعداد المقتحمين كانت أقلّ ولم يسقط جرحى أو قتلى. لكنّ نقاط التشابه كانت أكبر من أن يتمّ تجاهلها وفقاً للكاتبة السياسيّة في صحيفة "نيويورك تايمس" آنّا سوربري المتخصّصة في الشؤون الألمانيّة. كتبت سوربري أنّ ما يجمع المتظاهرين على ضفّتي الأطلسيّ هو انفصالهم عن العالم الحقيقيّ وانعدام ثقتهم بالمسؤولين وإيمانهم بنظريّات المؤامرة. فالمرأة التي دعت إلى دخول الرايخشتاغ قالت في خطابها إنّ ترامب كان في برلين وإنّ على الحشد إظهار كيف "طفح كيلنا" و"سنستولي على السلطة الداخليّة هنا والآن". ويعتقد كثر من اليمين المتطرّف في المانيا بأنّ ميركل تريد فرض "ديكتاتوريّة كورونا" وأنّ اللقاحات تهدف إلى تعديل جينات الناس. نقطة أخرى تلفت النظر إليها سوربري وهي أنّ الحشدين في ألمانيا والولايات المتّحدة لم يجدا ما يفعلانه بعد تحقيق هدفيهما سوى التقاط صور "سيلفي".
هذا مشهد مكثّف المعاني. على الرغم من تشكيل وسائل التواصل الاجتماعيّ تربة بالغة الخصوبة لانتشار نظريّات المؤامرة لدى أقصى اليمين (ولدى أقصى اليسار أيضاً)، يبدو أنّ وسائل التواصل هذه تحرم مستخدميها بدون قصد من السعي نحو أهداف "ثوريّة". ليس القصد من ذلك وضع استنتاج شامل. لكن ليس عرضيّاً أيضاً ألّا يملك المحتجّون، بالرغم من كلّ المظالم الحقيقيّة أو الوهميّة التي يقولون إنّها تصيبهم، سوى التقاط صور شخصيّة لهم من داخل المقارّ التي يقتحمونها. لا بيانات ولا تصريحات ولا حديث عن أيّ أهداف أو شكاوى. قد يتغيّر هذا الأمر في المستقبل إذا كرّر المحتجّون اقتحاماتهم. صحيح أنّ السلطات السياسيّة والأجهزة الأمنيّة باتت أكثر استعداداً لأحداث كهذه. على سبيل المثال، طلبت برلين من سفارتها في واشنطن تأمين تقرير حول كيفيّة حدوث أعمال العنف في الكابيتول لتعزيز أمن مؤسّساتها. مع ذلك، يبقى أنّ المشاكل البنيويّة القائمة حاليّاً قادرة على توليد أحداث مشابهة في المستقبل.
تحذير
في صحيفة "فايننشال تايمس" البريطانيّة، حذّر جدعون راخمان الدول الأوروبّيّة من الاعتقاد بأنّ غياب شخصيّة كدونالد ترامب عن مشهدهم السياسيّ الداخليّ يعني أنّهم "آمنون من الاضطرابات السياسيّة الخطيرة". وجد جدعون أنّ تراكم علامات الغضب والمشاكل الاجتماعيّة، بدءاً من المشاعر المناهضة لتناول اللقاحات، أكانت ضدّ "كورونا" أو غيرها، مروراً بنظريّات المؤامرة المختلفة وتطرّف اليمين الأقصى وصولاً إلى الضائقة الاقتصاديّة والاضطرابات الاجتماعيّة الناجمة عن "كوفيد-19"، تتّحد مع بعضها على شكل دوّامة خطيرة. ويذكّر أيضاً بأحداث اقتحام الرايخشتاغ والتظاهرات الغاضبة لمن عُرفوا بـ"السترات الصفر".
تضيف جائحة "كورونا" عنصراً من اللايقين إلى إمكانيّة توقّع صورة أوّليّة عن المرحلة المقبلة في أوروبا. تمكّنت الجائحة من رفع نسب التأييد الشعبيّ للحكّام الأوروبّيّين أواسط السنة الماضية. الاستجابة الاقتصادية والصحية للحكومات الأوروبية في مواجهة الموجة الأولى من "كوفيد-19" جيّرت بعض الدعم للتكنوقراطيين والسياسيّين الوسطيين في مواجهة الشعبويّين. لكنّ استمرار الإغلاق لفترة طويلة قد يعيد هؤلاء إلى الواجهة، كما حصل في ألمانيا وفي الولايات المتحدة، حيث يرى جمهوريّون أنّ عمليّات الإغلاق نوع من "الديكتاتوريّة" ومناهضة للحرّيّة. لهذا السبب، يعتقد الباحث في معهد "تشاتام هاوس" پيپين بيرغسون أن جائحة "كورونا" لن تقضي على الشعبويّة وأنّ الموجة الثانية من فيروس كورونا قد تقوّض خطاب "الخبرة" لدى الوسطيّين مع عودة الإغلاق. وحذّر بيرغسون منذ شهرين بأنّ تداعيات "كورونا" هي أرضية خصبة للشعبويّين خصوصاً إذا ازداد الدين العام وتوقّفت الحكومات عن دعم الاقتصاد.
للمتابعة
في نهاية المطاف، قد تنجو أوروبا من موجات غضب أخرى شبيهة بما حصل في الكابيتول. فالولايات المتّحدة استعادت عافيتها سريعاً وتمّت المصادقة على فوز بايدن وهي الآن تسائل رئيسها المنتهية ولايته لتسبّبه بالأحداث. بالمقابل، يمكن أن تريح اللقاحات الحكومات الأوروبّيّة من فرض الإغلاق القاسي في المستقبل المتوسّط، الأمر الذي يرفع الضغط عن المجتمع ويعيد عجلة الاقتصاد إلى الدوران. لكنّ هذه النتائج ليست مضمونة. لا يزال أمام أوروبا تخطّي عدد من الاستحقاقات لتلمّس الاتّجاهات الشعبيّة في 2021. من الانتخابات الهولّنديّة العامّة مروراً بالانتخابات المحلّيّة الفرنسيّة وصولاً إلى الانتخابات الألمانيّة، توفّر أوروبّا العديد من المحطّات لمعرفة ما إذا حصل في الولايات المتّحدة سيظلّ محصوراً هناك أم سيرتدّ مجدّداً نحو القارّة العجوز.