انطلق القارب ليلًا، من بلدة المنية في الشمال اللبناني، وعلى متنه 49 شخصًا، هم أطفال ونساء وشباب من خيرة ما أنجب لبنان بالإضافة إلى عدد من الجنسيات الأجنبية، ركاب ركبوا القارب وحلمهم الهروب من واقع أضحى أقرب من الموت منه للحياة، نحو مستقبل ظنوا أنه قد يكون خيرًا، فما كان من طريق الهجرة غير الشرعية سبيلًا لذلك.
لكنّ ذاك الموت أبى أن يفارقهم، فوسيلة السفر، كانت قارب صيد صغير، قارب غير مخصص للإبحار مسافات بعيدة، فكيف بهجرة غير شرعية في أعماق البحار؟
دخل القارب البحر الأبيض المتوسط ليلًا، بركاب بعضهم لا يعرف السباحة، ومن دون أمتعة ولا مأكل أو مشرب يكفيهم رحلتهم المشؤومة، الأمر الذي كان سببًا أساسيًا بوفاة 9 من ركاب القارب.
وجهتهم كانت جزيرة قبرص القريبة، على أن يستلمهم مهرب آخر بعد وصولهم، فتتحدد وجهتهم الثانية بناء على وجهة كل راكب.
وإلى ركاب القارب وعائلاتهم..
فقد ودّع الحاج نزار محمد، ابنه نظير مع عائلته (زوجته وأولاده الأربعة)، الذين قرروا جميعًا مغادرة لبنان بهدف البحث عن مستقبل أفضل.
قال الحاج نزار، خلال حديثه مع صيحات، "ضاع القارب وسط البحر أسبوعًا كاملًا، الغذاء الذي كان بحوزتهم قد نفذ وصرخات الأطفال قد بدأت تعلو".
وفي سؤال حول مناشدات قد يطلقها الحاج نزار، فردّ "أرفض مناشدة أي مسؤول لبناني، للأسف نحن نعيش في وطن هو أقرب إلى وادي الذئاب، القوي يأكل الضعيف، فيما زعماء السلطة يعاملوننا على أننا غير موجودين".
يذكر إلى أنّ فرع المعلومات قد سلّم نظير ضبطًا بقيمة مليون ليرة لبنانية، لفواتير تأخر في دفع الكهرباء، وذلك عقب الإفراج عنه!
قصة أخرى، هي للمرحوم "محمد الحصني" 24 عامًا، من مدينة طرابلس، غادر لبنان، "لأنه تعب من حياته، فحلمه كان كحلم أيّ شابٍ آخر في هذا العالم، أن يعيش حياة طبيعية من دون ديون، أن يمتلك سيارة ويتزوج ويحظى بالأبناء وأن يستطيع تأمين حياة لائقة بهم، ولكن كل تلك الأمور لم يستطع أن يؤمنها محمد هنا، فقرر الهجرة إلى بلد أوروبي يمنحه تلك الفرصة"، كما قال أخيه علي.
وأضاف علي خلال حديثه مع صيحات، وقلبه يعتليه الحزن والأسى على فقدان أخيه "المرحوم الشهيد" كما أطلق عليه، "كان معروفًا بطيبة قلبه وحبه للآخرين، صدقًا أشتاق إليه، أتمنى لو كنت معه، لما تركته يموت وحيدًا".
وتابع: "عمل أخي سائق أجرة، إلا أنّ سيارته قد تمّ حجزها منذ سنة تقريبًا ومنذ ذاك الحين، يحاول جمع النقود لاستردادها إلا أنّه لم يستطع، فقرر جمع 4 مليون ليرة مقابل الهجرة خارج لبنان".
وأردف علي، "لا نثق بحكامنا، ولا نؤمن بالدولة ولا نعترف بها، ولو كان هنالك دولة لما وصلنا إلى هذه المواصيل، فدولتنا تحمي فقط تجار المخدرات ومبيضي الأموال وأصحاب النفوذ فقط، أما الفقراء فقد كتب عليهم الشقاء والتعتير".
هذا وقد وجدت جثة محمد، مقابل شاطئ السعديات إلى الجنوب من العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تمّ تشييعه ودفنه في مدينته.
وناشد علي وشقيقه سمير، كلّ المعنيين السعي للعثور على جثامين باقي الشبان، خاصة أنّ اثنين من أصدقائهم ما زالوا مفقودين حتى اليوم، وهم: عبد اللطيف عدنان حياني ومصطفى فواز ضناوي، واللذين كانوا برفقة محمد على القارب.
يذكر إلى أنه وبعد مرور أسبوع على ضياع القارب في البحر المتوسط، عثرت إحدى البوارج التركية عليه، فيما ركابه كانوا في حالة من الجفاف والتعب الشديدين، فأنقذتهم وعادت بهم إلى الحدود البحرية اللبنانية حيث استلمهم الجيش اللبناني، الذي عمد إلى التحقيق مع الركاب ومن ثم وضعم تحت الحجر الصحي في أحد فنادق بيروت لمدّة 3 أيام على نفقة الأمم المتحدة، ثمّ تمّ الإفراج عنهم.