اعتاد ركاب سيارات الأجرة في لبنان على سؤال السائق عن "التسعيرة" قبل ركوب السيارة العمومية، ليطمئنوا إلى إمكانياتهم من دون أي "مشكل" مع السائق. أصبحت مقولة "اللي أولو شرط آخرو نور" هي المسيطرة. فكلا الطرفان يعيشان نفس الأزمة: مدخول تافه للموظف و اسعار المحروقات وقطع غيار تُسعّر على سعر دولار السوق السوداء. تنتهي أغلب هذه النقاشات بعدم الاتفاق: "التنكة صارت بـ٧٠٠ ألف يا حبيبي".
هكذا بات المشهد العام في كل مرة نتواجد في أيّ وسيلة نقل عامة، أجرة المواصلات في لبنان وصلت إلى الحد الذي يجعل من ركوبها رفاهية، ومشوار عائلي واحد يحتاج إلى ميزانية تفوق قدرة الجميع على دفعها.
وبين السائق والراكب وحالة المظلومية التي يعيشها كلّ منهما واتهام الآخر بعدم تقدير وضعه، تغيب الحكومة اللبنانية عن المشهد العام للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
المشي هو الحلّ البديل:
"أنا مجبر على البقاء في عملي التطوعي لأحصل على قيمة بدل المواصلات. الوضع المعيشي صعب، وأيضاً لدي مصاريف الدراسة، ولا بديل آخر متاح" يقول مصطفى، 28 سنة، حاصل على إجازة فنية في التمريض، ويحضّر الآن لرسالة الماجستير في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية.
مصطفى متطوع مع منظمة الإغاثة الدولية الممولة من قبل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين ضمن نطاق الصحة المجتمعية داخل مخيمات اللجوء البقاعية، ويحصل على مليون وستمئة ألف ليرة لبنانية مقابل 16 ساعة عمل أسبوعية، والذي يعتبر بدل مواصلات، "كان المبلغ من قبل 200$، ولكن عندما فُقد الدولار وبدأت الأزمة، بدأ التلاعب في قيمة البدل، فأصبح حالياً لا تتجاوز قيمته 40$ شهرياً، وهذا المبلغ لا يكفي أجرة مواصلات"، ويتابع مصطفى"أسكن في منطقة زحلة البقاعية، والمخيمات جميعها بعيدة عن الطرقات العامة، ومن يريد الذهاب إليها فهو بحاجة إلى سيارة خاصة أو طلب سيارة أجرة خاصة، فلا توجد باصات تمرّ بالقرب من هناك، وأنا أحتاج للتنقل بين عدة مخيمات والمسافة بذلك ليست ثابتة".
ويضيف "أغلب تنقلاتي أصبحت مشياً على الأقدام، لكي أستطيع أن أوفر ما تيسّر من الراتب لتأمين المصاريف، فأصحاب وسائل النقل يستغلون الوضع، والآن أصبحت أختار الذهاب إلى المخيمات القريبة".
لا يختلف الحال كثيراً عند الأختين هبة وياسمين (أسماء مستعارة)، 26 و25 عاماً، اللتين تتخصّصان في الإعلام في إحدى جامعات بيروت، وتسكن كلتا الأختين مع عائلتهما في منطقة صيدا الجنوبية والتي تبعد عن بيروت نحو 44 كم.
- "في السابق كنت أدفع 1500 ليرة لبنانية أجرة الباص إلى بيروت، الآن أدفع 50 ألفاً، خلال هذا الفصل الدراسي كانت الصفوف موزعة بين "الأونلاين" والجامعة، فمh سيحدث خلال الفصل القادم والدراسة حصراً في الجامعة؟" تقول هبة.
وتضيف "أصبحنا أنا وأختي نقتصد بالمواصلات التي نركبها لنخفف من مصاريفنا، المسافة بين بيتنا وموقف الباصات المتجهة إلى بيروت، كنا نستقل سيارة أجرة للوصول إلى المحطة، أمّا الآن بدّلنا السيارة بالمشي، ولكن عند العودة نضطرّ لركوب السيارة لأنّ الطريق صعب، لنصل في نهاية اليوم وقد دفعنا 300 ألف ليرة لبنانية في يوم واحد فقط"، تستطرد بالقول متهكمة "عم يصير استغلال بالمواصلات، إنو أوك تنكة البنزين بـ 700 ألف بس نحن ما عم نقطف مصاري عن الشجر".
وتعمل هبة في مجال التسويق الالكتروني، وتتقاضى أجراً بحسب ساعات العمل، والذي وصل لأقصى حد نحو 700 ألف ليرة لبنانية، أمّا ياسمين فتعمل بدوام جزئي في مجال بيع الملابس لدى أحد المحال القريبة من المنزل، وراتبها الشهري لا يتجاوز 500 ألف ليرة لبنانية، "رواتبنا لا تستحقّ العمل لأجلها، ولذلك نستعين بأهلنا لإعالتنا بالمصروف وتكاليف الطريق" تقول هبة.
السائق والزبون:
قد يظن البعض أنّ الزبون دائماً على حق، و تغيب عن باله معرفة القصة كاملة ومن كل جوانبها، لذا كان عليّ أن أسأل سائقي المواصلات العامة إلى أيّ حد أثرت عليهم هذه الأزمة، وهل بالفعل هم يستغلون الوضع؟
فواز العليوي، 46 عاماً، سائق سيارة أجرة منذ سنوات عدة، يبدأ فواز يومه صباحاً بالدّعاء بالرزق وألّا ينتهي مخزون البنزين لديه، "من قبل الضوء أفكر كيف أستطيع أن أؤمن 100 أو 200 ألف لتعبئة البنزين لكي أعمل"، ويتابع فواز "انقلب الوضع 360 درجة الأسعار ليست طبيعية، في السابق كانت كلفة صفيحة البنزين 30 ألفاً وكنا نملأ واحدة أو اثنتين، لتبدأ من بعدها بالارتفاع تدريجياً، حتى وصلت إلى 700 ألف، ولا نستطيع التعبئة إلّا بـ 100 أو 200 ألف، وأحياناً إن كان لدي بنزين أفكر في عدم العمل خوفاً من صرف المخزون وفي المقابل لا أجد زبائن".
ويكمل "أول سؤال يسألني إياه الزبون، قدّي الأجرة؟، فمثلاً يسأل عن منطقة عين المريسة في بيروت، فأجيبه 35 أو 40 ألفاً، ليرد أووف!، وهذا الرد كثير ما أسمعه من الزبائن، وهو لا يعرف أنّ هذا المبلغ لن يوفي معي في ظلّ سعر تنكة البنزين".
العليوي مثله مثل كثير من السائقين الذين يستأجرون السيارة من أجل العمل عليها مقابل دفع مبلغ يومي للمؤجر، وهذا الأمر يشكل مشكلة إضافية لحياة السائق وعمله، "من حرقة قلب أتكلم، كان الإيجار بـ 30 أو 40 ألفاً في اليوم، أمّا الآن فأصبح بـ 100 و150 ألفاً، وإن لم أدفع له يومين متتاليين يقول لي: ما عجبك وقف السيارة، وأضيفي أنّ صاحب السيارة لا يتعرّف على أيّ تصليحات تحتاجها السيارة بشكل دوري، والتي أصبحت تكلفنا الكثير مع غلاء الدولار". يخبر العليوي.
وبين من ليس لديه خيار سوى البقاء في العمل كسائق، هناك من قرر ترك هذه المهنة لإيجاد عمل أفضل، ومنهم إيلي ريشا، 40 عاماً، والذي عمل في المهنة لمدة ثلاث سنوات وتركها منذ ستة أشهر، حيث قام ببيع السيارة، "أوقفت العمل نهائياً لأنّ كما ترين أنت وكل العالم اليوم سيارة الأجرة لم تعد مهنة يمكن الاتّكال عليها للعيش لا كعائلة ولا حتى للأفراد" يقول إيلي.
ويتابع "سعر البنزين أثر على سائقي السيارات العمومية، فمثلاً أكون ملتزماً مع أشخاص عند الصباح والمساء أو مع تلاميذ مدرسة على سعر معين، يرتفع سعر البنزين، فأخسر أنا ولا أستطيع ترك العمل والأشخاص الملتزم معهم، ولا أستطيع العمل والخسارة قائمة".
ويكمل، "أعمل كلّ الشهر لأحصل على مردور ثلاثة ملايين ليرة لبنانية، وهذا مع عمل ليل نهار، يتعطل أيّ شيء في السيارة، فأشعر بذلك وكأنني أعمل سخرة!".
رواتب زهيدة في مواجهة الانهيار:
يمرّ لبنان بانهيار اقتصادي ومالي هو الأسوأ في تاريخه. ودفعت هذه الأزمة نحو 80% من السكان تحت خط الفقر منذ العام 2019 وذلك بحسب تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
ويقول بلال علامة الباحث الاقتصادي والسياسي، "الوضع الاقتصادي في لبنان في تردّ مستمر، وقد وصلنا إلى الانهيار، وحكماً هذا الانهيار سيرتدّ على الوضع المعيشي، ونحن اليوم أمام أزمات تطال حياة المواطن، منها الأمن الصحي، التربوي، السكني والاجتماعي، ومعالجة الوضع الاقتصادي لم يتم بالشكل اللازم طيلة فترة السنتين السابقتين والسياسات التي طبقت كانت خاطئة تماماً، والمواطن هو الذي يدفع الثمن".
ويضيف "من ضمن هذه الأزمات، أزمة النقل والانتقال والتي تعتبر أساسية في حياة المواطن، وعلى الرغم من الخطط الكثيرة التي عرضت سابقاً بدءاً من العام 2016، وفي العام 2017 وضعت خطة واضحة المعالم وسميت خطة النقل الحضري الخاصة ببيروت والمناطق، ولكنها لم تبصر النور لاعتراض الطبقة السياسية عليها ومن دون أن تضع أيّ خطة بديلة عنها، ولو أرادت الطبقة السياسية القائمة إيجاد بديل لكانت استطاعت خلال ثلاث سنوات".
ويتابع علامة الحديث عن الخلل الاقتصادي بأنّه ليس فقط على سعر المحروقات والبنزين وإنما أيضاً على كل السلع والخدمات وذلك نتيجة ارتفاع سعر الدولار وتدهور سعر الليرة اللبنانية، " خسرت الرواتب قوتها الشرائية، حتى لو كانت بالمليونين والثلاثة ملايين ليرة، فهذه المبالغ لم تعد تكفي، لذلك وقعنا في خلل اقتصادي كبير في عملية الموازنة بين المطلوبات والإرادات، وبهذه الحالة معالجة الخلل لا يكون إلاّ بإعادة هيكلة الرواتب والأجور وليس في زيادات أو تعديلات طفيفة على الرواتب بالليرة اللبنانية"، ويكمل "الخروج من الانهيار يتطلب رفع مستوى الإنتاج وزيادة الإنتاجية سواء للموظفين في القطاع العام أو القطاع الخاص، وهذا ليس من الممكن أن يحدث في ظلّ وضع المواصلات الحاليّ، ولا في ظلّ غياب خطة النقل الحضري الخاصة بكلّ لبنان، وحقيقةً من الغريب بقاء السلطة السياسية وتحديداً الحكومة من دون أن تطرح خطة مواصلات على الأقل لموظفي القطاعات الخاصة والحكومية لكي يتمكنوا من الذهاب إلى أعمالهم، وتكون المواصلات بتكلفة مقبولة".
لم تترك الأزمة الاقتصادية في لبنان قطاعاً ولم تُلقِ بآثارها عليه، ومع غياب قدرة الحكومة اللبنانية على إيجاد حلّ يُخرج البلد من أزمته، تزداد حدة الضيق الذي يشعر به المواطنون، ولا مستجيب لنداءاتهم المتكررة.
نبض