30 تحيّة لمن آمنوا بشمس بلا قضبان عند نهاية النفق... أسرى من فلسطين

 "تحيّة لأسرى وأسيرات الحريّة"، تتماوج فنّياً في معرض من تنظيم مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، في قاعة "الكلمة الرمز فلسطين" في مبنى المؤسسة ببيروت، وذلك بالتزامن مع يوم الأسير الفلسطينيّ في 17 نيسان، ويستمرّ منذ 1 إلى 30 من الشهر الجاري.

30 فنّانة وفنّاناً من فلسطين والمنطقة العربية والعالم، وبعضهم أسرى محرّرين من السجون الاسرائيليّة، يشاركون بأعمال تنوّعت بين لوحات مرسومة بمواد مختلفة، ومنحوتات، ومجسمات، وأعمال تركيبيّة، وفيديوهات، وملصقات تاريخيّة.

 

فكرة المعرض

لا يمكن "تجزئة" الرسائل والرموز التي تراكبت في أعمال المعرض، فهي تتشارك رواية الحجارة والتهجير والدم  والهدم والانتظار والصبر والموت، وأيضاً التفاؤل وسط شتّى أنواع الظلم الذي شكّل تاريخ فلسطين منذ النكبة (1948)، تلتها النكسة (1967)، ثمّ الانتفاضة الأولى (1987) التي أعلنت انفجار أعداد المعتقلين والأسرى في سجون الاحتلال، وقد تتخللها صفقات تبادل، وغالباً ما توازيها محاولات أسرى في انتزاع حرياتهم، ليس آخرها محاولة الأسرى الستة للفرار من سجن جلبوع في أيلول 2021، حين كشف الأسير محمود العارضة تفاصيل العمليّة أمام المحققين بمقولته الشهيرة "حفرنا حتى رأينا الشمس بلا قضبان" والتي كُرّست تميمة للاصرار والأمل عند الفلسطينيين، وقد تُمنع أسيرة فلسطينية رؤية ابنتها حتّى في الوداع الأخير، على نحو ما قاسته الأسيرة خالدة جرار عند موت ابنتها الشابة سهى جرار (31 سنة) بموتها بسكتة قلبيّة في تموز 2021، فكتبت الأم "حرموني من وداعك بقبلة، أودعك بوردة"...

عيّنات يلمح لها خالد فراج، مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في تقديمه المعرض، وذلك في بلورة مركّزة للأسرى الذين "نتحدث ونكتب ونرسم وننحت ونصوّر" عنهم، ومنهم من سجّل أطول إضرابات عن الطعام في التاريخ، وآخرون أتمموا الدراسات والشهادات الجامعية وألّفوا الكتب، وهذه فقط عناوين عن "تجربة الاعتقال والصناديق السوداء، كأنها مركب اجتماعي وثقافيّ يصهر الشعب الفلسطينيّ ويعيد صوغ قيمه الجمعيّة"، وقوامها في القضيّة المطروحة 4850 أسيراً فلسطينيّاً داخل سجون الاحتلال، ومن بينهم 43 امرأة و225 طفلاً، حسب إحصاءات هيئة شؤون الأسرى بحلول أيلول 2021.

 

 

من جهتها، تشير القيّمة على المعرض رنا عناني لـ"النهار"، أنّ "الفكرة جاءت من وحي عمل مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة في موضوع الأسرى من خلال برنامجها النشريّ من كتب ومجلات ومقالات وأبحاث، وكذلك من إدراك المؤسّسة لأهميّة موضوع الأسرى وأهمية التركيز عليه في هذا الوقت"، فـ "مثلما نستخدم الكتابة والنشر، ارتأينا استخدام الفن وتوظيفه للفت الانتباه وخصوصاً في العالم العربيّ حول الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. تبرّع للمؤسسة مجموعة من الفنانين الفلسطينيين والعرب، بأعمال فنّيّة لصالح المؤسسة من ضمنها مجموعة من الأعمال حول الأسرى. من جهة أخرى، تواصلنا مع بعض الفنانين الذين عملوا على مشاريع فنية حول هذا الموضوع، واستعرنا أعمالهم للمعرض. تواصلنا مع الفنانين في العالم العربي وفلاقت الفكرة تجاوباً كبيراً".

المعالجات الفنّيّة

يمتثل المعرض لقراءة موضوعيّة من خلال عناصر مكرّرة من "حواضر" الأسر وخصوصيّته الفلسطينيّة، ونجدها في الأسلاك الشائكة الّتي تقمّصت أغصان "شجرة زيتون" (2022) في مجسّم لعبد الرحمن قطناني من مخيم شاتيلا، والتقطها رائد عصفور من الأردن في صورته "تاريخ الاضطهاد" (2022)، ورسمها السوريّ محمد أسعد سموقان في لوحته الزيتية "مقاومة" (2021)، وتُعتبر هذه الأعمال من الأكثر حداثة في مختارات المعرض، فهل تشي إذن بسوداويّة تحجب الأفق، فعبّر الفنانون عن الأسر بأداته الدّموية وأكثرها بدائيّة، وكأنّنا نسمع بما قدّموه الشاعر معين بسيسو في أسره متماهياً مع الأسلاك، إلى أن "أصبحت أسلاكنا... عروقنا"!

وحيّا رؤوف الكرّاي (تونس) وعامر الشوملي (الكويت) بطولة الأسرى الستة في سجن جلبوع، فعبّر عنها الأوّل بستّة طيور ملوّنة ترفرف متحررة من نفق في لوحته من ورق معاد تدويره "صباح الخير فلسطين" (2021)، فيما أبدع قرينه "ست صبرات كانوا بانتظارك" (2022) في تذكيره بزاد الأسرى الوحيد في طريقهم نحو النور.

 

 

 واستحضر المعرض مرونة وإبداع ثلاثة فنّانين أسرى عبّروا عن مخاضهم بأدوات بدائية من داخل زنزاناتهم، فقد رسم الأسير أمجد غنام "بطاقة 2" من سجن جلبوع في عام 2011، مستخدماً "النسكافيه" والحبر. أمّا حاتم غرايبة الذي أسر في سجن الرّملة لثمانية سنوات بين السبعينيات والثمانينيات، فخلق من شرشف سريره لوحته "زيت الحرية" (1979)، ومواطنه الشيخ رائد صالح المعتقل لمرّات عدّة في فلسطين وبريطانيا عُني برسم "نصلح الحراب" (2012) حيث اتخذ معنى التجذّر بالأرض واستعادتها تعابير تضمينيّة.

ونلتقي شخصيات في التاريخ والسردية الفلسطينيّة الواقعيّ منها والمتخيّل مع أسمى غانم، اللاجئة الفلسطينية في سوريا، إذ أعادت تجسيد المناضل الأميركي  "مالكوم إكس فلسطينيّاً" (2022)، وهناك حنظلة في "فلسطين حرّة" (2022)، لوحة الاسبانية ماريا منريك، ويظهر في الرسم الزيتيّ للفلسطينيّ عيسى دبي المعتقل بتهمة الخيانة داود التركيّ، وهو يقيم مرافعته المفوّهة أمام المحكمة الاسرائيليّة في شباط 1972...

 

وتظهر شخوص مجهّلة، فهي نماذج رئيسة في قضيّة الأسرى مع العراقيّ سيروان باران في شخصيته البرونزيّة "بدون عنوان" (2021)، وأيمن بعلبكي يعرض من مجموعة "مجهول" (2011-2018) شخصيّة ملثّمة تحتمي بقناعها من الغاز السام الذي تبخّه قوّات الاحتلال على المعتقلين. ومن الأردن، يصوّر محمد صالح خليل أسيراً مغلف الرأس ومربوط اليدين في "أقبية الموت 3" (2021)، أما الفلسطيني ابراهيم الزين فيرى أنّ الأسرار خلف قضبان السجون هم "أحرار" (2016) برغم كلّ شيء، ومعتقلون نعرفهم ولا نعرفهم ظهّر بشار الحروب "في أثر ذكريات مأسورة" (2011) محكيّاتهم على جدران سجن الفارعة في بلده الأردن، ولعلّ "هروب" (2018) تصوّر لسان حال أهالي الفلسطينيين في سجون الاحتلال، يلتقطون الصور فيما يجلسون في الطبيعة... هذه لوحة الفلسطينيّ شادي الزقزوق، وفي الخلفيّة المسجد الأقصى.  

 

وننتقل للتجريد المرتبط بالمكان في "بوسطة" للفلسطينيّ عاهد إزحيمان حيث تلتقي ميزات الطبيعة في فلسطين، البحر والسهل والصحراء، يراها الأسرى بأعينهم من ثقوب سيارات الاعتقال. وهناك عمل تركيبيّ للهولندية إنغريد روليما، بعنوان "الرصاص المصبوب" (2018) ومنه اقتطعت مربّعات كأنّما تصوّر بوابات الزنزانات، أو المكان كلّه الّذي يصحّ تشبيهه برصاصة قاتلة وموت بطيء وفي الخارج الشمس...

 

"تحيّة لأسرى الحرية" معرض جدير بالصرخة، يطلقها أيضاً الفنانون بشير مخول، وخالد جرار، ومنذر جاوبرة، ومنال محاميد، وهاني زعرب، وهدى فودي، ويزن أبو سالمة من فلسطين، والهولنديين هانس أوفرفليت وسوزان غروثيس، وميثم عبدال من الكويت، بالإضافة إلى ملصقات من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية ودار النمر... الفنّ يأتمن نفسه على توثيق معاناة الأسر على أرض فلسطين، على أمل لا يستكين بأن تغدو شواهد على "ذات يوم".