الجنّة في عيونهم

محمد أدهم السيد - لندن

رحلة فريدة وممتعة تلك التي يقدمها معرض "صُنْع الجنّة"، الذي يستضيفه حالياً مركز الآغا خان في قلب العاصمة البريطانية لندن ويستمر لأواخر تشين الأول،  ويضمّ أعمالاً ومقاربات رائعة ومتنوعة لتسعة عشر فناناً من مختلف أنحاء العالم حول مفهوم وصورة الجنّة في الإسلام كما ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من مئة وثلاثين آية قرآنية- كما تقول الجهة المنظمة- مما يشير بوضوح إلى أهمية هذا الموضوع في عقيدة وروحانية الإسلام.

 



في الواقع، ما أن تضع أولى خطواتك في هذا المعرض المثير حتى ينتابك شعور مهيب بروحانية المكان. تصحبك في رحلتك خلال أرجاء المعرض غناء العصافير، وأصوات خافتة لخرير المياه وهي تجري في جداول أو تتدفق من نافورات وهمية في مكان ما من هذه الجنة الخيالية، بينما تعبق في المكان روائح مختلفة من البخور والعطور تم تركيبها بشكل خاص لتمنح المرء تجربة روحية وحسية ممتعة تداعب برفق ونشوة حواسه كافة.

هذا الأمر تؤكد عليه أمينة المعرض، أيسن سلمى كايا، بالقول: "تستحضر كلمة الجنة تخيلات لفضاء يقدم لنا البهجة ويدعونا للانغماس عبر جميع حواسنا والارتقاء بها. لذلك، كنت أرغب في تحفيز حواس الزائر بمجرد دخوله إلى المعرض. أردت أن يجد الزائر ما هو غير متوقع: أن يسمع أصوات العصافير في معرض لا توجد فيه نوافذ، وأن يتم استقباله بروائح العطور بينما تأسره الأعمال الفنية الجميلة المعروضة في المكان."

 

لطالما استولى مفهوم "الجنة" أو "الفردوس"، كحدائق خضراء مظللة ترويها الأنهار والبحيرات، على تفكير الأدباء والشعراء والفلاسفة والفنانين على امتداد التاريخ الاسلامي، وبشكل خاص منذ بدايات القرن الحادي عشر، وكانت الحافز الذي دفعهم لإدراج نظرتهم الفلسفية ومقارباتهم الخيالية لمفهوم الجنة في عدد كبير من الأعمال الفنية والإبداعات البصرية، التي انعكست بشكل أساسي في هندسة الحدائق والمنمنمات، والنقوش، والمخطوطات، والعديد من الرسوم داخل القصور والمباني الرسمية.


 

لم يكن هذا الاهتمام حكراً على الفنانين والمبدعين المسلمين فحسب، بل كان عاملاً مشتركاً بين العديد من الفنانين الغربيين الذين وجدوا في هذا المفهوم مادة غنية لتخيلاتهم وأعمالهم الفنية، الأمر الذي تؤكد عليه أيسن سلمى كايا أيضاً بالقول: "لاشك أن القاسم المشترك بين جميع الأديان والمعتقدات الروحية هو التطلع إلى أن نكون في حالة مثالية من الوجود، مكان يمنحنا السلام والسعادة المطلقين".

نافورة بلا مياه

يستقبلك المعرض في البداية بنافورة تتوسط القاعة الرئيسة التي تم إنشاؤها وتجهيزها كمحاكاة لتصميم الجنان في الحضارة الإسلامية. ولكن المثير في الأمر أن الماء لايتدفق من هذه النافورة الجميلة كما هو متوقع، بل عوضاً عن ذلك تنساب منها العشرات من الشرائط الورقية البيضاء والملونة التي تم قصها ضمن أشكال هندسية مختلفة الأشكال والأحجام.

 

تتحدث أمينة المعرض عن هذه التحفة الفنية قائلة: "منذ البداية، كنت أرغب في الحصول على نافورة في المعرض لتكون العنصر المركزي في المكان،  فالمياه هي المصدر الذي تنبع منه جميع تصاميم الحدائق الإسلامية، وهي إحدى السمات الأساسية المذكورة في القرآن الكريم عند الحديث عن الجنة. لذلك، دعوت مصممة الحدائق الإسلامية الشهيرة إيما كلارك لتصميم نافورة مستوحاة من تلك الموجودة في مركز الآغا خان. ولكني أردتها "صامتة"، لأنني لم أكن أريد تفسيراً حرفياً للكلمة، بل ترجمة شعرية وتشكيل فني يوحي بهبة الماء."

 

وتضيف كايا قائلة: "التقيت بفنانة التركيب كلير سيليست بورش، حيث شعرت بالانجذاب نحو أعمالها بسبب صورها الساحرة للعالم الطبيعي، وممارساتها الأخلاقية واهتمامها الشديد بالتنوع البيولوجي، فهي شغوفة بالمناخ وكان هذا خيطًاً جميلاً آخراً أردت حياكته في هذا المعرض."

بالإضافة إلى عملها الجميل في النافورة، تقدّم الفنانة والخبيرة البيئية الأمريكية كلير سيليست بورش، عدداً من الأعمال الملفتة واللوحات الجميلة لمجموعة منتقاة من النباتات والحيوانات بهدف إنشاء فضاء متخيّل للجنة. تستوحي بورش أعمالها هذه من التهديدات التي يتعرّض إليها التنوع البيولوجي في العالم، وتقوم بابتكار هذه الأعمال باستخدام قصاصات ورقية وتقنية اللصق، أوالتراكيب الافتراضية باستخدام صور مقطوعة يدوياً للنباتات والحيوانات، مأخوذة أساساً من مكتبة تراث التنوع البيولوجي وتعود لعام 1900 وما قبله، مما يعني أن العديد من الأنواع الموجودة في أعمالها الفنية إما انقرضت أو هي معرضة للخطر.





أعمال كلاسيكية ومعاصرة

في مكان آخر من المعرض تقدم الفنانة السورية ياسمين حياة أربعة أعمال خزفية تمزج من خلالها النقوش وأعمال التطريز المستوحاة من التراث العربي الإسلامي مع مؤثرات هندو- فارسية وتقنيات غربية معاصرة. وتستخدم الفنانة السورية في أعمالها أصباغاً خاصة قامت بصناعتها من مواد عضوية، إلى جانب مواد أخرى خام مثل المعادن والأتربة والنباتات وزهور الأقحوان


أما الفنانة البريطانية جين لي مكراكين فتقدم عدة أعمال جميلة مستوحاة من كتاب "منطق الطير" للشاعر المتصّوف فريد الدين العطار، وتصوّر فيها الهدهد وهو يتحدث إلى ثلاثة عشر طائراً بعد أن قاموا باختياره ليكون مرشداً وقائداً عليهم أثناء بحثهم الدؤوب عن الطائر الوهمي المسمى بـ"السيمورغ". وتتناول الفنانة كارين نيكول مفهوم الطير في الجنة أيضاً ولكن من خلال عمل جميل رسم باللون الأزرق تصور فيه طائر نقار الخشب وعدة طيور أخرى وهي تقف على فروع مختلفة إلى جوار مجموعة من الزهور لتوحي إلى هدوء وجمال هذه الدار الأبدية.





بينما يقدم الفنان البريطاني روس تيلور لوحة رائعة ومنظر بديع لمكان ما على سطح هذا الكوكب أو ربما في مخيلته، ولكنه قام بتجزئتها إلى أربعة أقسام رئيسية باستخدام طريقة "الريليف" لتبدو أجزاء من المشهد الطبيعي الذي يرسمه غائراً أو نافراً، في تقليد للطريقة التي اتبعها الرسامون خلال العهد المغولي في تصوير الورود.


في زاوية أخرى من المعرض تبرز الفنانة الباكستانية زارة حسين في منحوتتها نمطاً هندسياً من المثلثات الفيروزية والأزرق الداكن والأبيض على شكل زهرة ضمن حركات متكرّرة لا متناهية مصمّمة من التطبيقات التفاعلية والرسم والنحت. بينما تقدّم الفنانة البريطانية أولغا برينكو تطريزات تحاكي أجزاء زهرة الزنبق من بتلات وساق وأوراق التي تظهر كثيراً في النقوش الإسلامية، بالإضافة إلى عدد كبير من الأعمال التي يقدمها فنانون آخرون إلى جانب عدد من الأعمال الأخرى التاريخية والكلاسيكية.


حدائق من الجنة

ولأن مفهوم الجنة يعتمد بشكل أساسي على الحدائق، يركز المعرض على أهمية هذه المساحات الخضراء في حياتنا على مر التاريخ، فهي كانت وستبقى جنتنا الخاصة على الأرض. يصور المعرض الحدائق الموجودة في الجنة ضمن مفهوم التصميم الفارسي الكلاسيكي للحديقة الرباعية المعروفة بـ"شاهار باغ"، التي تعني (الحدائق الأربع) وتنتشر في عدد من المدن الإيرانية والهندية.



تنقسم الحديقة الرباعية بواسطة ممرات أو عن طريق جداول المياه إلى أربعة أجزاء رئيسة، ولكن يتم تكريس هذا التقسيم في الحديقة الداخلية للمعرض بشكل رمزي من خلال الجدران الأربعة المزينة بعدد من الأعمال الفنية المعاصرة والتاريخية. ويمكن فهم هذا التصميم كتفسير للحدائق الأربع للجنة المذكورة في القرآن الكريم في سورة الرحمن، كما ورد ذكرها في الآية (46): (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، والآية (62) (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ).

كما يتضمن المعرض فيلماً قصيراً يستعرض العديد من مشاريع ترميم الحدائق التاريخية التي أنجزتها شبكة الآغا خان للتنمية (الجهة المنظمة للمعرض) في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى الحدائق الجديدة التي أنشئت لتعزيز البيئة وتحسين حياة أولئك الذين يعيشون أو يعملون في مكان قريب منها. ويعبر هذا الفيلم عن رؤية راعي هذا المعرض، الأمير كريم آغا خان، والتي تؤكد على أهمية الحدائق كمساحات مهمة لبناء الجسور وتحقيق التقارب بين المجتمعات وتحفيز عملية التغيير.

مقاربات عالمية

في نهاية الزيارة لم تستوقفني جماليات الأعمال المعروضة في المعرض فحسب، بل ما لفت نظري أكثر هو هذا التناغم الجميل بين روح الشرق والغرب من خلال مشاركة أكثر من فنان عالمي في تنفيذ هذه الأعمال والرسوم الفنية التي تصور الجنة كما ورد ذكرها في القرآن الكريم، وهذا أمر رائع بالفعل ويحسب دون شك للمنظمين والقائمين على المعرض. وهو لم يكن وليد الصدفة كما تخبرني أمينة المعرض، بل كان هدفا محدداً منذ بدايات المعرض.

 

تقول لي أيسن سلمى كايا: "دعوت عن قصد فنانين من أصول شرقية وغربية للمشاركة في موضوع المعرض من أجل تقديم مجموعة متنوعة من التفسيرات وجذب جماهير مختلفة إلى المعرض. أعجبتني فكرة الجمع بين الفن الشرقي والغربي، وهو أمر لا تتوقعه بشكل عام في معرض يضم كلمة "إسلامي" في عنوانه، ولكن هذا الأمر كان مقصوداً فأنا أحب القيام بالأشياء بشكل مختلف في بعض الأحيان."

 

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يقدم المعرض أيضاً أعمالأ فنية حديثة ومعاصرة، جنباً إلى جنب مع أعمال أخرى كلاسيكية وتاريخية تعود إلى فترات وحقبات تاريخية متفاوتة ومناطق جغرافية متباعدة ضمن التاريخ الإسلامي. استعيرت هذه التحف الفنية القيمة من متحف الآغا خان للفنون الإسلامية في تورنتو، كندا، للتعبير فيما يبدو على أهمية هذا الموضوع عبر العصور وكيف تم معالجته وتخيله في أكثر من بقعة جغرافية ورؤية ثقافية وعلى امتداد أكثر من حقبة تاريخية.


وعن أهمية هذا الأمر، تشرح: "من خلال وضع لوحة تاريخية من متحف الآغا خان، على سبيل المثال، إلى جانب لوحة معاصرة لفنان المخطوطات فرخونده أحمد زاده، نسلط الضوء على العلاقة بين الأعمال التي كانت منتشرة في الماضي مع نظيراتها التي لا تزال تستخدم حتى اليوم. يمكن القول أن الاختلاف الوحيد بينهما هو أن العمل المستعار من متحف الآغا خان يعود إلى عدة قرون، بينما تعود رسوم فرخونده إلى عام 2020. هذا التقارب بين التاريخ والحاضر تجعل العمل، بطريقة ما، وثيق الصلة بالحياة المعاصرة."

 

في نهاية المطاف، لا شك أنّ معرض "صُنْع الجنّة" يقدم تجربة فريدة من حيث الموضوعات التي يطرحها أو حتى الطريقة التي يتبعها، والتي تجعل من زيارته رحلة رائعة وممتعة تبقى خالدة في الذاكرة. فبعد شهور من العزلة التي فرضها انتشار فيروس كورونا وحالة الركود الثقافي والتباعد الاجتماعي وحتى التوتر العصبي الذي فرضته الاجراءات الاحترازية للوقاية من هذا الفيروس الخبيث، يقدم هذا المعرض للفنانين المشاركين فرصة رائعة للعودة إلى صالات العرض، كما يولد حالة من الهدوء والمتعة والسلام الداخلي بينما يتجول الزائر في ردهاته ويتعرف على هذه الجنة الأرضية وفق منظور خاص جداً، على الأقل كما تخيلها هؤلاء الفنانين الرائعين. وهذا ماتؤكد عليه أيسن سلمى كايا أيضاً التي تختم قائلة: "فيما يتعلق برفاهيتنا العاطفية والجسدية والروحية، أود أن يفكر الزوار فيما تعنيه الجنة لهم، فهي يمكن أن تعني شيئًا مختلفًا لكل واحد منا".

*الصور: Jonathan Goldberg©