المسرح يحتفي بيومه العربيّ: لبنان فقَدَ الوهج والشباب في صلب معركة البقاء

سهّل الفنّان رفيق علي أحمد الوقفة النقدية، الّتي يطرحها "اليوم العربي للمسرح" الواقع في 10 كانون الثاني. فرسالة الاحتفالية، الّتي نشرها بعد اختياره هذا العام من قبل "الهيئة العربية للمسرح"، عرّجت على بانوراما عابر للأزمات المسرحيّة العربيّة، والّتي تتشباك من دون شكّ بتراجع هذا الفن لبنانيّاً.

لكن اختيار علي أحمد خير عيّنة من الوهج الذي يحتفظ به مسرحيّون لبنانيون في بلد يقارع أزمته، حيث للمسرح جذور ضاربة في التهميش لأسباب تتناولها "النهار" مع مسرحيين من جيلين، مستقين من رسالة اليوم إسقاطات على الوضع اللبنانيّ: "متى لم يكن المسرح العربي في أزمة؟"، وما "أسباب استمرار غياب التربية الفنية والمسرحية عن مناهجنا الدراسية؟".

 تصوّرات وحلول تسحب المسرح من حافة الموت إلى معركة بقاء، وتنفتح على مجازفات كبيرة؛ فالمجازفات دليل حياة.

الأزمة والمدرسة

مثلما أراد أن تنضح تجربته بريادة المسرح الإيمائيّ في لبنان، يُحرّر الفنّان الدكتور فائق حميصي الأزمة من صندوقها الضيّق. الكلام عن وجود أزمة ليس أمراً بالغ الصعوبة، ولا العبقريّة، ولعلّه أهمّ ضمانات الموت. "لا أؤيد فكرة أنّ المسرح دائماً في أزمة. المسرح صنو الحياة، فإن كانت الحياة في أزمة، تأثّر المسرح بها. وهنا أقصد الجانب الاستهلاكي، أي حركة العروض في المسرح. أما الجانب الفكري-الاجتماعي للمسرح، فهو مواكب للناس، ومشارك فعّال في تظهير الأزمات مهما كان نوعها". فـ"عالمياً، نشأت خلال الأزمات أهمّ المدارس المسرحية، تبعاً لنشوء فلسفات جديدة تستوعب الأزمات وتتخذ منها موقفاً. العبثية والسوريالية في أوروبا نشأتا بعد الموت العبثي الذي فرضته الحروب... وفي لبنان حصد المسرحيون، خلال حرب 1975- 2000، أهمّ الجوائز في المهرجانات العربية والأجنبية، كما نشأت تيّارات مسرحية متعدّدة".

وبعكس الاعتقاد السّائد، الشباب ينشطون في كلّ ميادين التعبير، ومنها المسرح "فالشباب هم أكثر المهتمّين بحركة المسرح، الذي يُشكّل لهم ميداناً لتبادل الأفكار والتعبير عن الذات والهموم، أملاً في التخلّص من ثقلها".

أمّا التنشئة من خلال المسرح المدرسي، فهي برأي حميصي "مجال آخر له وجهان: الأول في النشاط المسرحي من خلال النوادي اللامنهجية، والثاني في تعليم المسرح كمادّة في الصّفّ، لها منهجها وأهدافها التربوية وطرق تدريسها الخاصّة".

يأسف لأنّ "لبنان فقدَ دوره الريادي في هذا المجال، بعد وَضعِ منهج لتعليم المسرح كمادة دراسية سنة 1997، وصدرت بمرسوم جمهوري للتطبيق"، بالإضافة إلى إنشاء الجامعة اللبنانيّة قسمَ المسرح في كلية التربية لإعداد المعلّمين المجازين، لكنّ وزير التربية آنذاك أصدر قراراً بتأجيل التطبيق.

أمّا اليوم، فالمسرحيّ يتوقّف عند تجربة دولة الإمارات التي تحتلّ مركز الريادة، حيث يُدرّسُ المسرح كمادة أساسيّة منذ الصف الأول حتى الثاني عشر، منذ 2018، وفق منهج خاصّ ساهمَ في إعداده، فيما "مشروع تنمية وتطوير المسرح المدرسيّ"، تبناه ممثلو وزارات التربية العرب، الذين اجتمعوا الشهر الماضي. واعتمدته الهيئة العربية للمسرح سنة 2015، وكان لحميصي فرصة المشاركة في إعداده أيضاً.

وفي هذا المجال، ينقل آمالاً محبطة، "لستُ متفائلاً بالنسبة إلى لبنان، فتجاربي مع المؤسّسات الرسمية أغلبُها مخيّبة. الجهات الحكوميّة في لبنان تعمل وفق المحاصصة الطائفية، وهي محكومة بذلك. بالتالي، قد تطرح مشروعاً مسرحيّاً، فتتبناه الجهة الرسمية، وتُعيّن له مديراً مختصّاً بدراسة الحشرات، وفق توزيع المناصب بين الطوائف".

"الحال من بعضه" بالنسبة إلى النتاج الاقتصادي في المسرح، غير أنّ "النتاج الفكري بألف خير". ويستدلّ فائق الحميصي على ذلك "من عدد المشاركين في مسابقات التأليف المسرحي التي تقيمها الهيئة العربية للمسرح"، التي "تلعب برئاسة حاكم الشارقة سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، وهو مسرحيّ ومحبّ للمسرح، دوراً مهماً في الحياة المسرحية في المنطقة العربية؛ وذلك برعايتها عبر أمينها العام إسماعيل عبد الله وفريق عمله مهرجاناً مسرحياً وطنياً في كلّ دولة. وكان للبنان نصيب من هذه الرعاية سنتي 2018 و2019".

لا مركزية ومجانية وكورونا

يُذكّر المسرحيّ الشّاب قاسم إسطنبولي، مؤسّس المسرح الوطني اللبناني المجاني، بأنّ "كسر المركزيّة الثقافيّة" ضرورة يلتزمها، سواء عبر "تأسيس المسرح في العام 2014 في صور، أو عبر تمدّد التجربة نحو النبطية والعروض الجوّالة المسرحية". والتجربة أهّلته هذا العام لنيل جائزة "الإنجاز بين الثقافات في فيينا"، بعد وضع إصبعه على جروح المسرح في لبنان والمنطقة، ودأبه على علاجها ضمن "مساحة حرّة مستقلّة مجانيّة للشباب، لأنّنا محكومون بالأمل، ومتمسّكون بالحبّ، من أجل الفرح للناس. فحيث تكون الشمس يكون المسرح".

وفي النطاق العربيّ، انخرط إسطنبولي في تأسيس شبكة ثقافة الفنون العربية "آكان" لتحقيق التضامن الفني بين الطاقات الشابة، والاستلهام من التجارب الناجحة في المسرح الذي "لا يموت لأنه حاجة إنسانية باقية".

من ناحية التحديات، برأي إسطنبولي أنّ أولّ تحدٍّ يواجه المسرحيين عند التخرّج هو "ألا سياسات داعمة من قبل المؤسّسات العامّة والخاصّة. كلّ المسرح قائم على مبادرات فرديّة، ومنها ما تحوّل إلى جماعيّ، فضلاً عن غياب المسارح المجانية". ويعيش المسرح "تخبّطات اقتصادية لناحية سعر التذاكر وإجار الأمكنة، فيما أولويّة النّاس لقمة عيشها. والأزمة الصحيّة تهدّد استمرارية المسرح، فهو أكثر الفنون تأثراً بها. الهوّة إذن بين المسرح والشباب آخذة بالاتّساع، فالعروض المباشرة صارت نادرة، ولا يمكن للأقراص المدمجة أو "الأونلاين" تعويض العلاقة الحميمة بين الخشبة والجمهور".

ويجدّد إسطنبولي مطالبته بـ" مسرح مدرسيّ في لبنان"، إذ لمس أهمية إدراجه خلال تعليمه المسرح في مدارس رسمية في الجنوب. ويحاول اليوم "تطوير منهاج مع مسرحيين وأكاديميين"، لكن الترهّلات بالغة و"المناهج التعليمية في لبنان لم تتغير منذ سنة 1998 فما بالك بمناهج تعليم الفنون؟".

هذا الجانب يستدرجه للإشارة إلى الإهمال الحكوميّ المتمادي إذ "في أغلب الأحيان، ترصد وزارتا الثقافة والسياحة موازنات لمهرجانات صيفية، تنظّمها زوجات الزعماء والسياسيين، كشأن كلّ المحاصصات. فلا موازنة لدعم المسرح والفنون عموماً في لبنان".

وفي اعتقاده أنّ هذا الإهمال "ممنهج. لأنّ السيطرة على الشباب تبدأ بالسيطرة على عقولهم. وحين تغيّب الحكومات الفنون، فهي تغيّب أداة مهمة في التغيير".

ويجدّد إسطنبولي انتظاراته من الهيئة العربية للمسرح في "حماية سقف حريات الشباب في التعبير الفني والمسرحي"،  لأن "أيّ فنّ مقموع الحريّة هو فنّ يسوّق للسلطة".

مسرح الانتفاضة ومرآة المجتمع

أيضاً، لا يغيب التحريض ضدّ الواقع الذي نعيش عن بال المخرج والمؤلف زاهر قيس، الذي أسّس في العام 2017 جمعية "سرمدى"، التي تهتمّ بتنشيط المسرح في البلدات، ومركزها بتلون الشوف.

اختياره لمواضيع على تماس مباشر مع قضايا اجتماعيّة وسياسيّة تهمّ الشباب نجح على نحو كبير في جذب الجيل ليصنع تجربته على الخشبة، وبالتالي المساهمة في تنشيط المسرح "فنحن نتناول مشكلاتهم. حين يعتلون خشبة المسرح، يشعرون بأنّهم يتكلّمون عن أنفسهم".

والمثال الأقرب قدّمته "مسرحية "رهائن" في آب 2021، حين تناولت نظرة وأدوار المرأة التي يُنمّطها المجتمع باختلاف مراحلها العمرية، مروراً بالأفكار والممارسات النموذجية التي ينشأ عليها الرجل"، كاشفاً عن أنّ المسرح "جعل الممثلين الشباب يتقمّصون ذواتهم، أو أشخاصاً يعرفونهم".

مسرحيّات أخرى من صلب الأجواء الّتي هيّأت وواكبت الانتفاضات الشعبية التي خاضها الشباب العربيّ، منها "عربي بالمشبرح" (2008)، و"حكم البانغو" (2010) المستوحاة من أجواء مصر، إذ "ليس في الضرورة أن يكون البانغو هو الحشيش... أي سياسة تهدف إلى تخدير الشعوب هي بانغو، إن كانت سياسية أم ثقافية"، ومسرحية "جسر عبور" عن "وصول السياسيين لغاياتهم عبر جثث المواطنين"، ومسرحية "إضراب الحرامية" المستوحاة من انتفاضة 17 تشرين.

للحرمان- حسب قيس - جانبه المضيء، لأنّ "المناطق البعيدة عن بيروت متعطشة لكل شيء"، والحديث إذن عن وجود هوّة بين المسرح والشباب غير دقيق، لأنّ "هؤلاء الشباب وجدوا في المسرح متنفّساً للتعبير ومرآة لمجتمعهم. فهل نطيق العيش في بيت بلا مرآة؟ هكذا يعيش لبنان إن غاب المسرح".