"واجهات" مبنى بولس فياض ترمّم ذاكرة بيروت الوجدانية بأعمال 15 فناناً... "بكرامة ولكن بصرامة"

هو واحد من 2509 مبانٍ محاذية لمرفأ بيروت دمّرت جراء انفجار 4 آب. مبنى بولس فياض المنشأ عام 1939 قبالة المرفأ بين الحوضين الأول والثاني، يتعافى من اللحظة الغاشمة.


بعد سنة ويوم، انتفضت حلّة المبنى، لتكسوه ألوان الحياة وإرادتها بدلاً من الغبار والرّماد، من خلال 23 لوحة عمودية ضخمة بارتفاع 14 متراً للوحة الواحدة، من إبداع 15 فنّانًا تعاونوا ضمن "واجهات" بهدف "إحياء ذكرى جماعية ووجدانية في آنٍ واحد، لهذه المأساة الرهيبة التي دمرت وأطاحت حياة أفراد وعائلات وأحياء ومدينة وبلد بأكمله".


 

 حِدادان وتاريخ

بحسب القيمين على المبادرة، أن المبنى الذي يضمّ مكاتب لشركات ومؤسسات ومهنيين، بمجموع نحو سبعين قاطنًا، لم يتوقف يومًا على العمل بالرغم من كلّ شيء. نال الانفجار من "جميع النوافذ والأبواب والزجاج والستائر وحتى الجدران الحجرية، فلم يتبقّ سوى الباطون. ولولا وقعت لحظة الكارثة عند السادسة وسبع دقائق مساء وهي خارج غالبية دوامات العمل،  لكانت الخسائر البشرية مأسوية"، تقول لـ"النهار" المهندسة جومانه فياض- يوسفيتش، ابنة حليم فياض، ابن الجد المؤسس بولس.

وكانت "واجهات" فكرة الابنة، وشقيقتيها ماري كابريال فياض-دانيلز ونيكول فياض، بعد وفاة الأب حليم في 28 آذار الماضي. وتعاونت مع العائلة الصديقة ندين مجدلاني بكداش، صاحبة غاليري "جانين ربيز"، إلى جانب مانحين من مؤسسات خاصة هم: وفاء صعب وشركة Tinol Paints، منى بوارشي عن مجموعة شركات الجزائري، سهى وجوني فرح عن مؤسسة IF، ودومتكس.

وطوال أربعة شهور، سرت في شرايين المبنى دورة حياة جديدة، حركها فنانون خلال انجازهم للوحات، وهم: راشد وداليا بحصلي، داليا بعاصيري، ليلية بن بلعيد، إيلي بورجيلي، ليلى جبر جريديني، جوزف حرب، سمعان خوام، أنيبال سروجي، فادي الشمعة، علي علوش، يوسف عون، أحمد غدار، عماد فخري، سامي الكور.

وإذ تمخّضت "واجهات" عن التحام بين جرح أسرة وجرح مدينة، ثمة ما يلخص معاناة غالبية المواطنين اللبنانيين خلال العام الأخير، في حياة الأب حليم فياض، فـ"الانفجار كان ثقيلًا على نفسه، لأنه دمّر تاريخ عائلة. عانى مع احتجاز ودائعه من المصرف. كابَر.مفاجآت صحية غير سارة. تعافى في مطلع العالم، لأنه "محارب". بعد تلقيه جرعتي اللقاح ضد "كورونا"، كان يستعد للعودة الى المكتب، لكن الموت دهمه"، تضيف الابنة جمانة.

في سياق مرتبط، رسا تعبير الحداد على الفن  لأنّه إحياء لروح بيروت والأب حليم فياض الذي كان متذوقا للفن، فدأب على دعم مؤسساته أمثال الكونسرفاتوار الوطني، الأوركسترا الفيلهارمونية، مهرجانات بعلبك وغيرها.

وبمنأى عن السردية الخاصة، ترى نيكول فياض أنّ أحداثا عصفت ببيروت خلقت للمبنى قيمة تاريخية، ومغزاها في تلقيّه ضربات عدّة، ليعاود من بعدها النهوض: "جدّي بولس فياض الذي عمل في البناء والاعمار اشترى الأرض وشيّد على مساحتها المبنى من تصميم المعماري فؤاد قزح، الذي اشتهر بهندسته الخارجة عن السائد. حينذاك، لم يشغل المبنى سوى مستودعات في الطابقين الأرضي والسفلي، لكن توالت عليه عند دخول الحلفاء لبنان إبان الحرب العالمية الثانية ضربات من الايطاليين والانكليز. ثم استحدثت خمسة طوابق في المبنى بين عامي 1952-1954، بدأ المستأجرون يشغلونها وكثيرون منهم لم يغيّروا موقعهم".

وتتابع "يطول الحديث عن الأضرار التي هشّمته خلال الحرب الأهلية، وبعدها في انفجار مقرّ حزب الكتائب، لكن مما لا شك فيه أن انفجار 4 آب كان الأعنف على الاطلاق".

 

رسائل أطلقت "بكرامة"

وإذ أراد المبنى أن "يعبر بكرامة، ولكن بصرامة، عنسخطه وألمه وحزنه وعدم فهمه تجاه هذه الجريمة المروعة، وعن تضامنه مع جميع المتضررين جسديًّا أو معنويًّا، تعمّدنا تأخير تعليق اللوحات عن الذكرى الأولى للانفجار"، على ما تشير ندين مجدلاني بكداش لـ"النهار".

والسبب هو "أنّ الرابع من آب هو مناسبة للخشوع خارج البروباغندات. هو يوم لتأمل فداحة الجريمة والتعاطف مع أهالي الشهداء والضحايا، وقد امتثلنا لتوصيتهم بالتمنع عن الاستعراض في هذه الذكرى الجلل. كلنا شعر الى أي مدى العائلات موجوعة، وقد يحقق إطلاق هذه المبادرة في 4 آب أثرًا صادمًا في قلوبهم"، مشيرة الى أنّ "هذه الواجهات التي ستغطي المبنى لمدة شهر ليست حدثاًبذاته. هذه اللوحات تعبير مفتوح كجرحنا".

وفي سياق الجدل المستمر حول توقيت التعبير الفني في ذكرى 4 آب، وجدواه، وقيمته، ودوره في محاسبة المجرمين من عدمها، يبقى هذا التاريخ جرحًا غائرًا في وجدان كل سكان بيروت وكل لبناني، ولكلّ جريح الحقّ في مداواة جرحه بدون اختراق جرح الآخر. خطّ آخر أحمر وضعه القيمون على "واجهات": الطائفية والتحيز السياسي.

فيما يلي نستعرض لوحات الفنانين ورؤيتهم:

 

"بناء" لفادي الشمعة: "بمرور السنين، أصبحت أقل اهتمامًا بمظهر الناس، وجنسهم، وميزاتهم، ولونهم، وثروتهم... واليوم ، أنا مهتم بتصوير العمق الكامل والمتشابك لما يشعرون به، و كيف يجعلونني أشعر".

 

"هجرة" لسامي الكور : "كل المحن الدائرة في لبنان وانفجار بيروت الكبير، أنتجت موجة كبيرة من الهجرة الجماعية بحثًا عن مستقبل أفضل وحياة هادئة ومستقرة. خلال زياراتي للبحر في لبنان، لاحظت تشابه الأسماك المتحركة مع الهجرة الجماعية ، فاخترت السمكة لتكون رمزا لظاهرة الهجرة".



"السقوط الحر" لليلى جبر جريديني: "جسدت فكرتي بالشكل الطويل الضيق الذي يذكرني بالمساحة التي يشغلها جسم يسقط حرًا. لبنان يخضع لسقوط حر. نحن ضحايا وشهود لخروج الأمور عن السيطرة في بلدنا الحبيب. مشروعي هو لوحة فنية ثلاثية لإبراز سقوط الأجزاء الحمراء المكسورة، وكذلك القطعة المتبقية من شجرة الأرز الغالية على قلوبنا، وتراكم الأجزاء في الأسفل".



"بيروت القديمة" لعلي علوش:
"ليس دافعي التقاط الحادث المأساوي، بل أردت نشر روح الأمل والسعادة في نفوس الناس  ولو مؤقتًا. رسمت بيروت القديمة ببيوتها التراثية ومتحف سرسق، علّي أحيي هذه الذكرى الجميلة".

 

 "انتهت اللعبة" لعماد فخري: "يعبر عملي عن الرسالة التي تظهر في لعبة فيديو عند انتهاء اللعبة؛ سواء بسبب خسارة اللاعب أو انتهاء اللعبة".

 


"
وبقيت أنا" لراشد وداليا بحصلي: "يمامة السلام هي ما بقي لشعب أمضى عمره مناضلا لكي يحمي وينهض ببلد أصبح مقعدا... هل سيبقونها على قيد الحياة؟"

 

"التراكم 1- التراكم 2" ليوسف عون: "كل شيء عابر. الفن لا يعبر. تراكم الحدس والمشاعر. تراكم الأشكال والألوان. تراكم المادة، الجوهر. تراكم النفوس والأجساد. تراكم الماضي مع الحاضر والمستقبل. في نهاية اليوم، لا شئ، لا معنى، لا نهاية، باستثناء تراكم الفن والحب".

 

"محو الجرائم" لأحمد غدار: "شهدت بيروت انفجارًا غيّر كل شيء تقريبًا في حياتنا في لبنان. منذ وقوع هذا الاغتيال، سارعت كل الأحزاب السياسية والحكومة إلى محو المسارات التي أدت إلى مشاركتهم في إحداث هذه الكارثة. في هذا العمل الفني، أقف وجهاً لوجه أمام هؤلاء المجرمين وأقول لهم إن هناك الكثير لمحوه قبل كشف كل شيء".

 

"شكرا" لإيلي بورغيلي: "رجل الحياة الضائعة. ألهمه الجرذ الفضيلة. تنقل العين ألمه، طفل مزقه وحش نسميه: مسؤول. شكرا لك".

 

"حيوات ضائعة، أوراق ضائعة" لنفس الفنان: "تبكي من أجل أطفالها، مدينتي. عندما تدفن البلوط شجرة زيتونها. عاصمة الألم، بيروت. الوحش يختبئ وراء جبنه في حذاء عاره. تسقط براءتنا، وتتلف الأوراق، وتضيع أرواحنا".

"مخدوشة، غير مكسورة" لداليا بعاصيري: "لقد غيّر الرابع من آب نظرتنا إلى الزجاج. لحظة الانفجار، تحول الزجاج من درع واقٍ إلى ملايين السكاكين. غزا الزجاج المكسور المدينة وتسبب في أضرار لا يمكن تصورها. يرسم عملي صورة جوية بأشعة إكس للمدينة كوسيلة للتحقق من عمق الضرر العاطفي والجسدي".

 

"بحر 128" لداليا بعاصيري: "سلسلة من اللوحات البحرية التي تبحث في التحديات الاجتماعية والاقتصادية بعد الانتخابات. تجسد تقنية اللوحة اضطلاع الشعب اللبناني بالحياة الديمقراطية ومسؤوليته تجاه وطنه. تعمدت الرسم باستخدام الإبهام، وهو إصبع التصويت، فطبقت 128 بصمة ملونة تجسد كراسي البرلمان. يطرح "بحر 128" قضايا الملكية العامة/ الخاصة، والتلوث، وأزمة استخراج النفط- ويسأل: البحر ملك لمن؟ هل لا يزال بإمكاننا إلقاء مشاكلنا في البحر؟"


"التوهج الذهبي" لأنيبال سروجي: "بالنسبة لهذا العمل الفني المطلي "يدويًا" في الغالب، فإن الهدف هو إضفاء لمسة "بركة". المقصود في هذا العمل أن يكون رسالة سلام".

 

"هاوية" لليليا بن بيلايد: "العمل بمثابة تحليل شخصي للمناظر الطبيعية والفجوات التي تكوّن المدينة. م تأخذ هذه الممارسة الفنية دورًا موحّدًا بين المساحات والمستخدمين؛ وبين المستخدمين والشخص الذي يرسم بضعة سطور من مشهد حضري على قطعة بسيطة من الورق. كل رسم يمتص فضول الآخرين ويحفظ الذكريات".


"بكاء 1- بكاء 2" لجوزف حرب: "الكمال ليس هدفي لأن لا شيء كامل في العالم. اللوحة تكفي لسرد قصة أو اكتساب هوية. تماما مثل قطعة منفصلة من الجثث وجدت في موقع الانفجار. إن جزءًا من جسد منزوع من الإنسانية، هو تمثيل لشخص ميت. الرأس بمفرده يحمل في سطوره تراكمًا للأحداث الماضية".


"الحالة الانسانية" لسمعان خوام: "هنالك في الركود /حيث ظلك يتأرجح في كل الاتجاهات/هنالك عند المنبع /حين يتساوى القاتل و الضحية /كلاهما ضيف المائدة /قلبك الوليمة".