غيلان الصفدي يعيد تشكيل "حياة الآخرين" فلوّن ريشة الكآبة: "نعيش كوميديا دانتي"

تطرح لوحات الفنان التشكيلي غيلان الصفدي تساؤلات متجددة في "الأنا والآخر"، كأنّها على مرمى نقيض من فلسفة سارتر القائلة بأنّ "الآخر هو الجحيم"، إذ يعيد الرسام تركيب عناصر الواقع لتوحي بأنّ "أنا الذي هو الآخر نعيش في جحيم واحدة". انطباع ينحو إلى تأكيده الرسام لـ"النهار" في سياق حديث عن معرضه التشكيلي المنفرد "حياة الآخرين" المستمر منذ 1 تشرين الأول الجاري لمدة ثلاثة أسابيع، في غاليري Art on 56th بمنطقة الجميزة.


تولّدات الجحيم قابعة في اللوحات، "زمننا الراهن مسرح لكوميديا دانتي الالهيّة، إحدى الفنون التي شدتني بعمق"، في إشارة الفنان لسهولة التقاط شخصيات المسرحية في عدة وجوه أمثال الملك والمهرج وحيوانات. كما تستعرض "حياة الآخرين شريط حياتي أنا. نوستالجيا لما عشت وقرأت وسمعت منذ الطفولة: جاك بريفير وأنسي الحاج ومحمود درويش وألبير كامو".


لا يمكن استئصال سردية المنطقة المثقلة بالحروب والأزمات عن تجربة غيلان الصفدي، ابن سوريا، الذي يقيم في لبنان منذ عام 2012 المؤرّخ للسنوات الأكثر دموية في الحرب السورية. رغبة بالتحرر من الواقع المأسوي، انشدّت نحو تصوير سوريالي: مهرّج حاسر الرأس، مهرّج مكتئب، آلة نفخ موسيقية تزفر الأسماك، عنب نبت على صدر امرأة، بشر برؤوس حيوان...


باقة شخوص، حين نتمعّن في وجوهها نلتقط استرسالاً في مشاعر من الذبلان والحزن والاستسلام لها، وبعض الوجوه طمست معالمها، فتتظهّر بمعادلة كاريكاتورية؛ الجميع منخرط في أجواء إحتفال أطبق عليه الشؤوم ورائحة الحداد أو نذائر السوء. الخلفيات السوداء والبنفسجية الحزينة ليست وليدة الحظ. كانت التأمت بشكل لافت في جبلة واحدة مع رسوم الشخصيات بلَوني الأبيض والأسود حصراً، التي قدّمها الصفدي ضمن معرضين سابقين ببيروت، إلّا أنّ "تلوين الوجوه قد يعكس محاولة في إضفاء لمسات أمل على الواقع".

يغزونا شعور سلس بأننا أمام فنان رهيف، من نظرة ملقاة على لوحاته الطافحة بالإحساس، قد لا يستدعيها التبحر في الوجوه. إلّا أنّ التمرين الأخير ضروريّ للتثبت من براعته التقنيّة التي تشكّل تحدياً كبيراً، إذ تستحضر حالة نفسيّة مكرّرة ضمن عشرات بل مئات الوجوه غير المكرّرة، فكشف عن سرّ حماية نفسه من التكرار من خلال "تنويع الألوان، أو خلق الفوارق في نقل الشعور ضمن أجزاء مختلفة من الوجه. قد نلحظ كآبة شخصية من عينيها، ثم نرصد هذا الشعور في شفتي شخصية أخرى". 

في لوحة "الألف وجه"، اجتاز الفنان بأناة وحرفية عاليتين فخ الوقوع في الاستنساخ. كان يقظاً لفرضيّة: هل يمكننا أن نرسم ألف وجه في لوحة بدون الوقوع في التكرار؟ حصالة التحدي، اللوحة أنجزت بوجوه لا يشبه الواحد فيها الآخر، خلال شهور الحجر الطويلة "رواية أخرى عن شريط حياتي. كنت أتساءل هل الحياة ستبقى ممكنة، وكيف تستمر ما بعد كورونا".

جدير بالإشارة أنّ أعمال الفنان جالت عبر رسائل، من الواضح أنها نجحت في مخاطبة المجتمع الإنساني أينما وجد، وذلك في معارض فردية وجماعية في لندن وباريس وألمانيا واليابان، وفي مؤسسات منها معهد العالَم العربي في باريس ولايتهاوس غاليري في لندن، ومعرض البحرين للفنون. وأعماله مُقتناة ضمن مجموعات في سوريا ولبنان وفرنسا وبريطانيا والبحرين والكويت وأميركا.

إذاً، ماذا بعد "حياة الآخرين"؟ لطالما توثّب الصفدي "النجاح، لكن الحفاظ عليه وتقديم عمل أفضل من سوابقه هو المسألة"، في سياق الاستقطاب الكثيف الذي يشهده المعرض الحاليّ من جمهور متعطّش للتمعق في مساحات الفن، وبرهان على أنّ غيلان الصفدي استخدم "قلق النجاح" بالمقادير المثالية.