الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"مائل إلى عطش" لبدوي الحاج: شعر الحياة وأيقونات الحبّ

المصدر: "النهار"
غلاف المجموعة.
غلاف المجموعة.
A+ A-
أسعد الخوري
 
من الضيعة اللبنانية البسيطة، الهادئة، الجميلة، المتسامحة، الحاضنة للأهل والأصدقاء ورفاق المدرسة والملعب والدرب. من هذه البيئة الجميلة، التي تفوح شعراً وعاطفة ونُبلا وحبّا، جاء بدوي الحاج. لقد عمّدته بساطة القرية، ونبع مائها وأشجار الدّلب والصفصاف المحيطة بالسواقي الصغيرة، شاعرا للحبّ والمرأة والوطنية.
 
لكن كل جمال الضيعة اللبنانية ومحيطها لم يشفع للشاعر بدوي الحاج، ولم يُغْرِهِ، للبقاء في أرضه وبين ناسه وأهله. فضّل أن يكتشف عالما جديدا. أراد أن يختبر المجهول، ما وراء البحار والمحيطات البعيدة. فهاجر إلى بلاد غريبة. إلى أوستراليا (بلاد الكانغرو) حيث الأشجار الباسقة، والغابات الفسيحة، والطّيور الملّونة. حيث "غابات المطر" وكل الغابات التي تغري الزائر الذي لا يشبع من جمال الطبيعة وروعة المناظر الخلاّبة.
 
صحيح أن بدوي الحاج خسر قدسيّة مناظر وادي قنوبين وقاديشا، في وطنه الأم لبنان. لكنه بقي وهو في دنيا الاغتراب، يحنّ إلى كل بقعة من وطن الأرز، وهو ما ظهر واضحا في قصائده، حول الضيعة والأم والأهل والوطن والمرأة بشكل عام.
 
بدوي الحاج.
 
بعد دواوينه "… ولو بعد حين" (2014) و"قامات في فراغ أبيض" (2016)، و"لاهثا يبتلع الهواء" (2017)، أصدر بدوي الحاج أخيراً ديوانه الجديد "مائل إلى عطش" عن "دار المؤلف" في بيروت، حيث ما زال الشاعر "يؤكد أن الغربة لا تعني بالضرورة الانشقاق عن الوطن، بل هي خير دليل على التجربة الحياتية الصادقة، التي تجلّت لنا من خلال قصائده هذه، حيث جاءت تعبيرا عن كل ما يختزنه في داخله من أفكار وهموم، ولم تُنسِهِ أرض وطنه الذي انطلق منه إلى عالم الاغتراب"، كما جاء في كلمة الناشر. في مدينة سيدني الأوسترالية حيث مارس الشاعر الحاج الإعلام لفترة خلال دراسته الهندسية، وتخرّج مهندسا مدنيّا من جامعات المدينة، بدأ كتابة الشعر. لعلّ الحنين المؤرّق إلى الوطن الأم، كان الدافع الأساس لتحريك مشاعره، فكانت تجربته الشعرية الأولى، ثم كرّت المسبحة.
 
رياح ومطر وشمس لبنان، وبحره الأزرق، كانت كلّها في صميم تجربته الشعرية التي لم تقتصر على المرأة والغزل والطبيعة وجمالياتها، بل تعدّتها إلى أمور وشجون الوطن والناس.
 
أما المرأة فبقيت أساساً لافتاً في شعره، كما يتجلّى في قصيدته بعنوان "رحيق في خوابي العناق"، التي يقول فيها:
يَدُكِ آخِرُ النّسيم/ تَتَمايَلُ خفيفةً بِلا إدراك،/ وهي تَرسمُ كلَّ التّفاصيل اليومية…/ …./ تَدخُلين عُبابَ القلبِ/ بلا حَصانة/ على رملِ وزَبَد!../ ما عُدتُ أقوى على صَدِّ أمواجكِ/ فالرذاذُ أعمى عُيون المِلحِ
أو عندما يقول في قصيدته:
أجملُ نِساءِ الدّنيا، هي التي/ في وَريدها مَطَر../ تَسقي به أقحوان النافذة،/ في الصّباح كما في المساء/ تسكن وجهي/ واشتهائي إليها يَزيد!
 
يستخدم الشاعر بدوي الحاج تعابير رومانسية في قصائده مثل "غيمة عارية" و"سحابة المطر" و"غنج وإغواء". هي تعابير تدلّ على منهجية الشاعر وأسلوبه في كتابة القصيدة الحديثة حيث المفاهيم الشعرية تنبعُ من الواقع الحياتي (غيوم ومطر وغنج وأُرجوان وهمس قلوب)! إنه شعر الحياة، الذي يطلّ على الدنيا بكل جمالياتها وبهارجها وأيقونات الحبّ التي لا تنضب ولا تشيخ يقول الشاعر:
“سأمشي إليكِ كل صباح/ حتى أصحو بين ضلوعِك/ كأيّ غيمةٍ عارية../ تُراقصُ سحابةَ المطر!/ سأبحث عنكِ حتى يحلو القطاف/ ويغدو المساءُ أكثرَ رقّة/ والغدُ مَطليًا بالأرجوان والضجيج…/ سأمشي إليكِ بغنجٍ وإغواء/ حتى أُولَدُ في هَمسِ قلبكِ من جديد!”.
***
لكن الشاعر لا يمكن أن ينسى قريته، نشأته، محيطه، عالمه الأول. هو يريد امرأة تشبه قريته… باختصار تشبه نفسه، وتشبه كل ما عاشه واشتهاه في طفولته وشبابه الأول:
"أُريدُ امراةً غيرَ كلّ النساء/ تشبه قَريتي/ تستفيء بشجرة الدِّلب/ ويسرحُ على قدميها الماء!".
 
ونجد الشاعر من منزله في الطابق الثامن بمدينة سيدني الأوسترالية يطلب رواية من والده، يسأل عن حكاية الموت والحياة، عن مسبحة جدّته:
"في الطابق الثامن،/ نوصد الأبوابَ لنحتفظَ بالدّفءِ/ نَصغي إلى الكثير من الحَطايَا، نَزيدُها حَطَبًا/
أرجوك يا أبي، أريد حكاية/ عن كل شيء".
 
إن عيون النساء كانت على الدوام تشكّل قوة ودافعا ورغبة لدى الشعراء. وبدوي الحاج تغمره العيون الجميلة بدفء الحياة. يقول:
"كل النساء كَبُرَتْ… إلاّ أنتِ!/ عيناكِ تتلويانِ/ نشوةً/ كشهيق في آخر الحبّ…!/ كل النساء غَفَتْ على صَدرِ المساءِ/ … إلاّ عينيكِ".
 
وفي قصيدته "مائل إلى عطش"، يتوجه الشاعر إلى الذين "يخافون العاصفة" بكل أنواعها وأشكالها وظروفها وهبوبها، لكنهم يراوحون مكانهم ولا يخطون خطوة واحدة يقول:
“يا من تَسكُنُون الصَّوت/ بلا ضوء/ بلا نوافذ/ في اختناق مائل إلى العَطَش…/ هاربون بلا خطوات/ بلا روح، بلا جسد..!/ أعَلَمُ أنكُم تَخافونَ العاصِفة!". 
 
ليست سنديانات الضيعة وأشجارها الباسقة، ورائحة زهر الليمون الفوّاح، سوى جزء من ذكريات الشاعر بدوي الحاج. ليست الغيوم الداكنة، ورذاذ المطر العاشق لتراب الأرض، والعصافير التي تبني أعشاشها الصغيرة، بثقة بالغة، في نوافذ البيوت القروية البسيطة… والطيور المغرّدة في الصباحات والعشايا، ليست سوى “خميرة” رائعة للشعر والحبّ والرومانسية يقول الحاج:
 
"أحبُّ مراقبة الغيوم من بَعيد../ في اصطفافٍ غريب/ في طابورٍ صامِت../ ذاهبون إلى النبع لملء السّلال../ أحبّ مراقبةَ الشَّجر العَنيد../ تمزّقه الريح/ تعبث بأغصانه…/ تحاولُ اقتلاعَه من أرضِهِ، من جُذورِه..!/ هناك شجرٌ مُتمسّك بأرضِهِ/ هناك بَشَرٌ…!".
 
وهكذا، لن تكون الرياح مهما اشتدّت وعتت، قادرة على اقتلاع الشاعر الحاج من أرضه، من بيئته، من بيته، مهما اغترب وهاجر وابتعد عن وطنه. هو يبقى متمسّكا بالأرض لأنه يجب أن تتذكّر دوما من أين أتيت ومن أي وطن قَدِمت، وأي أرضٍ هي أرضك… لكي تعرف معنى الحياة ومعنى الحلم بوطن حقيقي... ذلك أنّ في وريده مطراً يسقي به أقحوانة الغربة. إنّه شعر الحياة وأيقونات الحبّ، ورذاذ المطر العاشق لتراب الأرض.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم