الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

جبور الدويهي وفارس ساسين... شهادات عن ارتطام مدوِّ في تلاحق الغياب

المصدر: النهار
جودي الأسمر
جودي الأسمر
الراحلان جبور الدويهي وفارس ساسين.
الراحلان جبور الدويهي وفارس ساسين.
A+ A-

نكسة مزدوجة هذا الغياب. لا يزال الوسط الثقافي في لبنان والعالم العربي مفجوعاً برحيل الروائي والأستاذ الجامعي جبور الدويهي (1949- 2021)، ليلحق به في غضون ساعات رفيق الثقافة ولبنان، المفكر والناشر فارس ساسين (1947- 2021)؛ كأنّ "لا شيء في الأفق سوى المكفنين العائدين إلى جوار أمهاتهم"، أمست نبوءة يصف بها مؤلف "شريد المنازل" رحيله المباغت والساحب، وأي تصحر يتمدد في المشهد الثقافي، منقضًّا على أهم أربابه، مفسحًا أخيرًا لمزيد من "السم في الهواء".
في رثاء من عاشا بالكلمة وعاشت الكلمة بهما، كتاب ونقاد وأصدقاء الدويهي وساسين، تحدثوا لـ"النهار" عن حضور لا يعوّض وخسارة لا تضاهى.

ضوء العبقرية المتواضعة

شبلي ملاط- محامٍ دولي وأستاذ قانون

كان جبور الدويهي صديقًا وسميراً دائماً، متجددًا في كل حديث، الحديث الأدبي كما الحديث السياسي واليومي. يكره الترداد العقيم وملل التبسيط ومذلات الشهرة، أتحف الرواية العربية من جبل لبنان بغزارة نجيب محفوظ ورحابة سرده، وقد تخطاه في النكهة الأممية التي  تميّز شخصياته الشريدة بين الشرق والغرب، وبين أصالة إهدن وآداب باريس، مجتمعة متنافرة متلاقية متواترة.

رحل رهيف الرواية العربية تاركاً كنزاً عالمياً يقول كلمة لبنان العريق في ظلمات الأزمات المتتالية وانهيار الأخلاق والدول معاً.

رحل الأخ الحبيب وفي محياه حتى آخر لقاء ضوء العبقرية المتواضعة، وهي العبقرية الأسمى على الإطلاق.


انتفضا مرة ذهاباً ومرات إياباً

جهاد الزين - صحافي سياسي وكاتب

كيف نحصي ملايين الأفكار والملاحظات والحوارات التي رحلت مع جبور الدويهي وفارس ساسين؟ كيف نحصي الودّ والأُلفة والتفاهم والاختلاف؟

مثقفان بارزان في جيلنا من ذلك الجيل من المثقفين المهمومين الذين خسروا ذهاباً في تضحياتهم الشخصيّة والسياسيّة، وخسروا إياباً في تضحياتهم السياسيّة، ولكنهم ربحوا أنفسهم أشخاصاً وأساتذة وكتّاباً.

عرفت عن قرب فارس ساسين وجبور الدويهي مثقّفين انتفضا مرّتين: مرّة ضدّ انغلاق بيئتهما، ومرّة بل مرّات ضدّ محاولة قمع بيئتهما في أهمّ ما فيها من إرث حريّات وتمايز.

كانا جنديين غير صامتين وغير مجهولَيْن في الدفاع عن لبنان جميل وديموقراطي. عاشا معظم عمريهما يشاهدان تراجعه كأنّهما يحميانه ثقافةً وطموحاً وتنوّراً.

كان عليك أن تدرس رأيك بدقة قبل أن تُسْمِعه لفارس ساسين الناقد العلامة الدقيق، الذي تخرج منه المعرفة كأنّها سبائك ذهب ظهرت فجأةً، وكان عليك أن تتأكد من صحّة ما تقول قبل أن تُسمعه لجبور الدويهي الروائي المكتنز بالمشاعر والخبرات.

سيكون لي كلام كثير لاحقاً عن هذين العزيزين اللذين بدت الصداقة العميقة التي ربطتهما كأنها فعل اتفاق مشترك توّجَها الموت "المشترك".

مات مثقفان كبيران كان العالم قريتَهما حتى لو انزوى كلّ منهما في الريف الأحبّ إلى قلبه.

(بعدسة سميح زعتر)

الكلمة انتصار على الموت

اسكندر نجار- محامٍ وكاتب
كان جبور الدويهي أستاذاً جامعياً مميزاً، علّم الأدب بشغف قبل أن ينصرف الى الكتابة. وسرعان ما بلغت رواياته العالميّة، فتُرجِمت الى عدّة لغات ونالت جوائز عديدة، منها  جائزة سعيد عقل وجائزة الرواية العربية التي تمنحها مؤسسة لاغاردير ومعهد العالم العربي في باريس.

تعاونّا ضمن فريق ملحق "لوريان ليتيرار" حيث كانت مقالاته النقدية لافتة لجهة مقاربته العميقة وغير المألوفة للإصدارات التي كان يتناولها.

 على صعيد شخصيّ، لي الشرف أنّني كنت صديقه وأنّه ترجم لي كتابين: الفلكيّ وقاموس لبنان.

كان جبّور يتقن اللغتين العربية والفرنسية، وكان ينهل من الحضارتين من دون مشقة. كنت أحبّ تواضعه وذكاءه وسخريته الناعمة واللاذعة في آن.

 رحيله خسارة كبيرة للأدب اللبناني، لكن عزائي أنه سيبقى خالداً من خلال كتبه وآخرها رواية "سمّ في الهواء" التي صدرت حديثاً.
وغادر فارس ساسين هذا العالم بعد ساعات على غياب صديقه جبور الدويهي وكأنه كان مصراً على مواكبته في رحلته الأخيرة. كان فارس مرجعاً في الفلسفة وفي تاريخ لبنان، وناقداً مميزاً في ملحق لوريان ليتيرار. موسوعة متنقلة نالت ثقة غسان تويني الذي كان يستشيره على الدوام. لعله من آخر ممن يستحقون لقب
érudit في بلدنا، وسيفتقده جميع المثقفين الذين تنوروا بفكره وأعجبوا بتواضعه.

صدق الكاتب ميشال بوتور عندما قال: "كلّ كلمة نكتبها هي انتصار على الموت!".

 

صداقة لم يقطعها الموت

 أنطوان قربان- طبيب وأستاذ تاريخ وفلسفة

كان مستحيلًا تصوُّر فارس من دون جبور في الأوساط الثقافية والفكرية في لبنان. وكان جبور من دون فارس حالةً غريبة. فاللقاءات الأسبوعية في مجمّع ABC في الأشرفية، أولًا لدى مطعم "ليناز" ثم مطعم "أوربانيستا"، والتي كان يتبعها غداءٌ في المدينة، أصبحت في نهاية المطاف طقوسًا تقليدية لحلقة ضيّقة من رجال وسيدات الكلمة والفكر. يُتقن كلاهما لغتَيهما الأم، العربية والفرنسية، إتقانًا شديدًا.

فارس، أستاذ الفلسفة، كان منهلًا للمعرفة الموسوعية، ومرجعًا مشهودًا له في الإرث الأدبي والفكري الغربي والشرقي.

وجبور، أستاذ الآداب الفرنسية، كان يعيش برفقة أروع وأجوَد ما أنتجته الآداب الفرنسية والعربية.

كان جبور وفارس نموذجَين مشعَّين عما استطاع لبنان العِلم والثقافة والفكر الكوني أن يجسّده منذ النهضة العربية الكبرى التي حملت التنوير للعالم العربي في القرن التاسع عشر بفضل مدينتَي بيروت والقاهرة.

غادر الصديق جبور هذه الفانية عصر يوم 23 تموز محاطًا بذويه. وبعد ساعات قليلة، رحل صديقه فارس الذي لم يكن يفارقه. وهذا دليلٌ على أن رابط الصداقة أقوى من فراق الموت.

 

الروائي الأنيق وفارس الفكر رحلا!
كارول سابا- محامِ

رَحَلَ جبور الدويهي الروائيّ المُمَيّز الأنيق، رجل الروائيّة اللبنانيّة، وتَبِعَهُ فارس ساسين، فارس الفكر، مُداعِب الثقافة ومُقارِع الفلسفة وفلسفة الكبار وتوأم "النهار" الحبيبة التي عانقها، كما نُعانقها نحن، ليس فقط كجريدة، ولكن كمَكان لزمن الفكر وفكر الزمن، وكمَربَض لخيل الثقافة، وكحَوْض تَوَثُّب الأدب السياسيّ والمُجتمعيّ والوَطني.

رَحَلا سويَّة، بِصَمتٍ وهُدوء، وتَرَجَّلا دون ضجيج وصَخب، وتعانقا وتوشَّحا بِحِبْر الكلمة لمُلاقاة الكلمة، وكأنهما كانا على مَوعِدٍ سِرِّي أسراري، كما الكبار، مع سَيّد الأنوار... كيف لا! وهُما كانا على عقود طوال يُمطِران علينا من أنواره فِكراً وصوراً وكلمات ليس كالكلمات، وأدباً يُغني ويَبني فينا، تماماً كالرّحابنة وفيروز، صورًاً لحبّ هذا الوطن ويَربِطان فينا محطّات لما يُسمّيه الكاتب والمفكّر الفرنسي الشهير بول ريكور السرديَّة الوطنيّة.

هؤلاء ناضلوا وأتمّوا المُهمّة، وتابعوا السيرة والمسيرة، وأضاؤوا بأنوار وجماليّات تُشير إلى الكماليّات الثقافيّة والأدبيّة والسياسيّة التي تبنى عليها الأوطان. فأين هذا الزمن الرديء من نضالهم؟ وأين نحن لنَنبَري لإنقاذ ما ناضلوا وكتبوا لأجله؟

(بعدسة سميح زعتر)

مات بطريقة الأجزاء
رفيف رضا صيداوي- ناقدة روائية

مات جبّور الدويهي بطريقة الأجزاء. نعم يا جبران خليل جبران... أقسم، أنا التي لم ألتقِ جبّور الدويهي يوماً، أنّه لم يمُت دفعةً واحدة بل بطريقة الأجزاء. قَتَلَهُ رحيلُ أحبّة وتشوُّهُ أمكنة وغدْرُ زمان، وخَيباتُ وطن. فهو لطالما فَتَحَ في رواياته بابَ الماضي والذاكرة ليُشركنا نحن القرّاء في تتبُّع  تهافُت الأمكنة والناس في وطنٍ اسمه لبنان، لم يرقَ إلى مستوى طموحات أبنائه.

لم ألتقِ بكَ جبّور الدويهي يومًاً لكنّني أشعر الآن بفراغٍ شبيه بذلك الذي يتركه غياب الأصدقاء. ألم تكُن صديقي في الفكر والأدب الذي تشاركتُ معه، في كلّ رواياته، لعنة وطن اسمه لبنان؟ تقاسمتُ معكَ كلّ تفاصيله وكيف يَلفظ أبناءه ويتركهم لمصائرهم المدمِّرة، حتّى أنّكَ بدوتَ لي مهندس الرواية الكبرى عنه.

في روايتكَ الكبرى هذه نقرأ بعضاً من تاريخ هذا البلد وتبدّلات أحواله المأسويّة في الغالب الأعمّ. نقرأ هذه التبدّلات عبر حيوات الشخصيّات ومصائرها المُتناظرة مع تبدّلات الأزمنة تارة، أو مع معالَم الأمكنة، من بيوتٍ وأزقّةٍ وحاراتٍ وأحياءٍ وبلداتٍ ومُدنٍ، تارة أخرى، أو مع كليهما معًاً. شخصيّات مهدورة الطاقات، مهدورة الأحلام، مدفوعة دوماً إمّا إلى هجرةٍ أو إلى جنونٍ أو موتٍ مجّاني في وطنٍ أزهقت روحَهُ الحروبُ الصغيرةُ والكبيرةُ والعصبيّاتُ كافّة.

جبّور الدويهي أُرقد بسلامٍ في أحضان الأرض التي أَحببتْ، أنتَ المسكون بحبّها وبحبّ الطبيعة. هِبة الحياة التي تنعَّمتَ بها وعشقتَها في حياتكَ حتّى القداسة، والتي لشدّة عشقكَ لها ألفيتُ نفسي أُسقطُ عليكَ ما جاء على لسان راويكَ العائد من أميركا في روايتكَ "اعتدال الخريف". هذا الراوي الذي راح يُشبع نفسه من طبيعة بلدته وأمكنته الأولى، ثمّ كَتَبَ في يوميّاته: "أنا لا أتخلّى عن فكرة أنّني، بعد موتي، سأبقى هنا بقربها، تحت أشجار الكينا".


الكبرياء وتواضع الكبار

سليم مزنر- رجل أعمال وناشط مدني

هذا الرحيل المزدوج، يخونني التعبير أمامه. ربما إن أراد أحدنا النظر إليه بشكل رومنسي، أظن ما كان جبور ليتردد بكتابة رواية عنه. وأن يكون رحيل جبور بعد مرض لا ينفي كونه مأساة لا نزال نجترع صدمتها لحظة تلو الأخرى.

كان فارس وجبور وأنا أصدقاء منذ أكثر من 15 سنة، نلتقي كل أسبوع لنتناول غداء سويًا. ومنذ معرفتي بهما كنت أشعر أنهما شخصان بشخص واحد؛ تركا هذا العالم بفارق ساعات وبدون أن يعرف أحدهما برحيل الآخر.

كان حين يسخر أحدهما، الآخر يضحك... حين يحب أحدهما، الآخر يشتهي... حين يفكّر أحدهما، الآخر يجادل. جبور الدويهي وفارس ساسين منبع للمعرفة والصداقة. سقوط مدوّ. فراغ فارغ للغاية. 

لقد كان جبور معروفًا بسخريته السوداء وفارس كان إلهاما للسخرية، من أمور قد لا نعرفها إذ هو موسوعة متنقلة، باحث وأكاديمي وخسارة عظيمة نفتقده مثلما افتقدنا منذ سنوات لغسان تويني المقرب منه جداً. لا أحد يعرف غسان تويني على نحو ما عرفه فارس ساسين.

فارس ساسين كان عميقاً وعالماً وحاذق النظرة، ولديه تواضع الكبار.

وجبور غادرنا بكبرياء من لا يشكون من مرض أصابهم. زرته مع شبلي ملاط منذ عشرة أيام، وكان انطباعي، أننا كنا نقضي آخر لقاء سعيد لنا.  

(بعدسة سميح زعتر)

تماهي الكاتب والشخصية

سميح زعتر- مصور فوتوغرافي

مع جبور لا مقاربة كلاسيكية في التصوير. لا يكترث بتاتًا جبّور لهمّ "الوضعية" أمام الكاميرا. من يعرف جبور ويلتقيه في يومياته ويقرأه، يستطيع أن يستشف بسهولة أوجه الشبه بين حياته ورواياته. وكلنا يعرف ويحب كيف يستقي جبور رواياته من حياته، لذلك حين ألتقط صورة له يمكن القول أنني ألتقط صورة لشخصية من رواياته، أكان يجسدها أو يتماهى معها أو يتعاطف معها.

أسترجع جبور بمئات اللحظات التي جمدتها لقطات من حياته الانسيابية والجزيلة كالمياه. الصورة الأجمل لجبور ستبقى صورة الجريان التي تشبهه؛ صورة جبور الأجمل هي لحظة التحام الواقع بالرواية. جبور الذي كتب مثلما تحدث، صورة أمينة لعدم اصطناع اللحظة أو الشعور أو أيّ محاولة للاستعراض البصري. الأدب لا يفني الكاتب والصورة لا تفني اللحظة، لكن جبور ترك أيضًا إرثًا في ذاكرة وقلوب مجتمعه في زغرتا وطرابلس. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم