"مسارات الحداثة" لشوقي بزيع بين المنهجين الخارجي والداخلي

ترتبط لفظة الانتظار باسم شوقي بزيع عادةً من خلال الشعر، حيث التجربة العتيقة التي طرحت نفسها قرباناً للأرض والطبيعة والمدن والأشخاص والموت والحياة وفي أواخر إصداراته بالقضايا الميتافيزيقية والاجتماعية، لكن بزيع فاجأ جميع مرتقبيه بإصدار نقدي بعنوان "مسارات الحداثة- قراءة في تجارب الشعراء المؤسّسين" الصادر عن "دار الرافدين" و"مسكيلياني للنشر والتوزيع" (طبعة أولى 2021(، ليكون بمثابة مشهديات نقديّة وعصارات قدّمها الشاعر والناقد اللبناني كوليمة معرفيّة تزيدنا استدلالاً وإدراكاً للمرحلة التي تكوّن فيها جنين الحداثة في أحشاء الشعر العربي... لكن اللافت أن بزيع وازَنَ ما بين المنهجين الخارجي المتمثّل بالخلفيات الاجتماعية والنفسية لكلّ شاعر من شعراء الحداثة الـ24 المتناولين، وتجاربهم في الكتاب، وما بين التجربة الشخصية والمناهج الداخلية المتمثّلة بالقراءات الأسلوبية والموضوعاتية والبنيوية لكلّ تجربة شعريّة... لنغدو من خلال هذا الكتاب أمام تجربة دقيقة سعى الشاعر للمساواة من خلالها بين الذات والموضوع وبين الرؤية الأكاديميّة والرؤية الشخصيّة.

 

التجارب ودراستها بعيداً من أعلامها

في مقدّمة امتدّت على مدى سبعين صفحة حاول بزيع أن يغطّي مفهوم الحداثة ومنعطفاته الغربية وانعكاس هذه الثورة الأدبية على البقعة الثقافيّة العربيّة، مستعيناً بالتاريخ والفلسفة والسياسة، وعارضاً من خلال عناوين عدّة مكامن الجدل أو الإشكاليات التي ما زالت تثير التساؤلات لدى جملة من النقاد والأدباء. ولعلّ توصيفه للعمليّة النقدية جاء ليبرهن أنّ النقد ليس حكراً على أكاديمي أو باحث جامعي بل هو الغوص والتدقيق والبحث عن التقنيّات، وهو ما يستطيع فعله كلّ من يملك هذه القدرة أي إنّه قدّم هذه الفكرة بطريقة مهادنة محترماً الأصول الأكاديمية وفاتحاً من جهة ثانية المجال أمام كلّ من يمتلك القدرة النقدية على المحاولة وخوض التجربة "ومع أن زعْم البعض بأنّ النّقد الأدبي بات في عالمنا المعاصر علماً قائماً بذاته، وأنّ له شروطه وأدواته التي لا تُمتلك بغير الدراسة والاختصاص، ليس بعيداً عن الصحّة، إلّا أنّ ما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو أنّ النقد الأدبي ليس علماً "صلباً" وشبه يقيني كسائر العلوم، بل هو علم "ليّن" وملتبس وحمّال أوجه، لأنه يشتغل بالأساس على مادة إشكالية وقابلة للتأويل." (ص.6). وما الإشارة الى ليونة النقد كعلم إلا تمرد على الصورة النمطية السائدة القائلة بوجوب التخصص وضرورة تخصص الناقد قبل أن يخط تصوره.

ومن ناحية ثانية فإنّ التجارب الـ24 التي تناولها بزيع اتّسمت بوحدة عضوية من ناحية منوال المعالجة، أي إنّ بزيع سعى من خلال مقالاته إلى اتباع نفس الأسلوب في محاكاة تلك التجارب من دون أن يضع حاجزاً بينه وبين الأسماء الكبيرة التي رحل أغلبها عن عالمنا، وخير مثال على ذلك انتقاده لنازك الملائكة أولى مؤسّسي الخطّ الحداثي في الشعر العربي "إلّا أنّ قارئ قصيدة الكوليرا التي نظمتها نازك بمناسبة الوباء الخطير...لا يعثر في القصيدة على صورة مباغتة أو مقاربة مختلفة للحدث" (ص97)، وكذلك الأمر بالنسبة للحديث عن صلاح عبد الصبور. "وحدها قصيدته "سأقتلك" تبدو خارجة عن سياق تجربته الناضحة دائماً بالهشاشة والرقة..."(ص137). وما استخدام مصطلح "الهشاشة" المثير للجدل وحمّال الأوجه، إلّا دلالة على ثقة بزيع بقراءته الشعريّة والنقديّة وتقديمها تحت مسمّى "الحلو الحادّ"، ليختلف التعاطي مع تجربتي خليل حاوي وأدونيس، وتتجلّى سمات تعاطي التلميذ مع أستاذيه بوضوح واعتراف صريح من بزيع لتعكس معنى الارتباك والحذر الشديدين، ما جعلنا أمام مقالتين تتأرجحان بين توثيق تجربتين ذاتيتين من جهة "لم يكن اسم أدونيس مجهولاً لدينا، نحن طلّاب قسم اللغة العربية وآدابها... (ص.120)، و"نحن طلّاب ذلك الزمن الوردي، أن نتتلمذ في كلّية التربية...على أحد أبرز رموز الحداثة الشعرية في لبنان"(ص127)، و"في إشارة إلى خليل حاوي" ليتجه المنظور النقدي أكثر الى التعاطي الشخصي مع هاتين التجربتين وتقديم جملة من الوفاء والإخلاص والامتنان لما اكتسبه منهما شوقي بزيع من شعر ومعلومات وخطوط عريضة...

ولم يخلُ الكتاب أيضاً من مقالات جذب من خلالها بزيع أفكاراً سبق له أن عالجها في مقابلات أو كتابات عدّة، ولا سيّما فيما يتعلق بتجربة سعيد عقل الشاعر الذي أثارت الجدل مواقفه وأفكاره ونزعته الحداثيّة خصوصاً حين يختزل بزيع تجربة الشاعر الراحل من خلال مقاربته بتجربة مايكل أنجلو وهو ما ذكره الشاعر في عدّة مناسبات وحوارات، وكان نقده لآرائه الحداثية هذه معيارياً يتجنّب بدقته قدر الإمكان الغوص في الجدالات الشائكة: "أمّا دعوته الى التخلي عن العربية الفصحى لمصلحة المحكيّة...فأبلغ ردّ عليها هو شعره الفصيح (ص77)، و"أراد أن يفعل بها كما فعل مايكل أنجلو بالتمثال" (ص77).

نجح بزيع إذن في دراسة أغلب تجارب الشعراء بعيداً عن تجاربهم الحياتية، وقد انطلق في الحديث عن بعضها الآخر، ولا سيّما محمد الماغوط والفيتوري، واكتفى بقراءة نقدية تنضح بالودّ والامتنان لأستاذيه خليل حاوي وأدونيس، أي إنّ مساره الكتابي تدرّج وفقاً لتفاوت النزعات الإنسانية وانفعالاتها الأساسية.

 

عصام محفوظ ومجلّة شعر

لم تكن الكتابة عن عصام محفوظ عملية توثيق لتجربة صحافي ومسرحيّ فحسب بل كانت بالنسبة الى بزيع محاولة جديدة لفهم شخصية صحافية خفت اسمُها في الوسط العام وبقي اسمها لامعاً وفقاً للمثقفين والمحتفين بالوسط الأدبي، فبداية الحديث عن محفوظ ارتبطت بالتعب،أي إن الكاتب هنا يعطي للمتلقي إنذاراً وتمهيداً من جهة وعذراً آخر عن التوتّر الكتابي والإبداعي الذي توجّس بزيع أن ينعكس على طول المقال "قد تكون الكتابة عن عصام محفوظ مغامرة شاقة..." (ص215 )، "وإذا كانت هذه المقالة لا تتّسع للحديث عن مسرح عصام محفوظ ..."(ص216)، وقد استعان بزيع بالتجارب المرويّة عن أصحابها للحديث عن شخصيّة عصام محفوظ المتمرّدة على مجلة شعر وتهميشهم له على الصعيد الشعري في بداياته، الذي ولّد لدى الصحافي الراحل فيما بعد نزعة تمرّد وثورة على أعلام ورموز مؤسِّسة في الشعر الحديث "أمّا في نقد الشعر فقد رفع محفوظ السقوف عالياً...فمعظم الشعر العربي الحديث في نظره ثرثرة غنائية سطحية الانفعال"(ص217).

ولم يقفز بزيع عن سور مجلّة شعر الذي ضمّ يوسف الخال/أدونيس/شوقي أبي شقرا/محمد الماغوط وغيرهم، وعالج كلّ تجربة وحدها دون ربطها بالأخرى رغم معاصرة بعضهم لبعض واتفاقهم على قالب النثر المجبول بالشعر أو المعروف بقصيدة النثر أو القصيدة بالنثر.

 

المعيار الشكلي الأكاديمي

تُسجّل لبزيع ولدارَي النشر نقطة ترتيب المقالات وفقاً للجنسيات والتراتبيبة الشعرية، فنلاحظ أنّ السيّاب ونازك الملائكة والبيّاتي وبلندر حيدري شعراء العراق المحدثين أتى الحديث عن تجربتهم بالتتالي، وكذلك الأمر بالنسبة الى أدونيس وخليل حاوي نظراً لحيثيتهما الشخصية عند بزيع.

لكن غاب عن شوقي بزيع الاهتمام بالجانب الأكاديمي على الصعيد الشكلي، فغابت قائمة المصادر والمراجع، وغابت الدراسات السابقة والإكثار من الحواشي ولم يسعَ بزيع إلى توحيد القراءة المنهجية النقدية بل تارة نراه يقرأ أسلوبياً وتارة نراه يقرأ الشاعر من زاوية نفسية (أنسي الحاج وعصام محفوظ ومحمد الماغوط نماذج) وفي بعض القراءات نراه يتوغّل في الجانب الاجتماعي (محمد الفيتوري نموذجاً).

قدّم شوقي بزيع هذه القراءات على أنها مقالات جمعها تحت عنوان واحد مهم مثير للجدل ودسم من ناحية الدراسة والتمحيص النقدي "الحداثة"،  لكنّه بذلك شكّل مرجعاً ملهماً للعديد من الباحثين الراغبين في الانخراط في مجال النقد الأدبي ولم يرسوا على نموذج شعري حداثيّ، فكانت النماذج الأربعة والعشرون إجابات عن كلّ التساؤلات لدى هؤلاء وتلميحات ترشدهم نحو شاعرهم، لذلك اختار أن يلعب على حبلين: المناهج الخارجية والمناهج الداخلية.