رحلة حذاء من ألمانيا إلى التليل

بدأت منذ فترة، عدّة مزارع ألمانيّة لإنتاج الألبان، بتخصيص إجازة أمومة مدّتها ثلاثة أشهر لأبقارها. تكرّس الأبقار نفسها خلال هذه الإجازة لصغارها، حيث تستمتع العجول الصغيرة، بآخر نقطة حليب من ضروع أمّهاتها، فتنشأ علاقة حميمة بين العجول والأبقار، مما يجعل الأخيرة مطمئنّة لمصير صغارها، جاهلة ما يحاك لهؤلاء الصغار من مصير مشؤوم، بعد فطامها واكتمال نموّها.

لثورٍ من ثيران تلك المزارع صحّة جيدة، ونمو سليم، لأنه لم يتمارض وقد أكل كلّ علفه، خلافًا للثور المذكور في كتاب ألف ليلة وليلة. فهنا تقوم الجرّارات الزراعية الضّخمة بالحراثة نيابة عن الأبقار، مما يزيد من دلالها من أجل لحمها وحليبها.

صبيحة يومٍ منحوسٍ، اِقتيد ذلك الثور إلى المجزر الآلي، حيث ذُبح، وسُلخ جلده وخضع لعدّة مراحل تختّص بصناعة الجلود، قبل أن يُوضّب ويُرسل إلى إحدى شركات جلود متخصِّصة في صناعة الأحذية في إيطاليا.

وُضع جلد الثور في طردٍ كبيرٍ من النايلون السميك الشّفّاف، وشُحن بالقطار عبر الطبيعة الأوروبية الخلّابة، إلى أن وصل دكّان إسكافيّ في حي "تريفي" في العاصمة روما، هناك توجد أشهر نافورة باروكيّة في العالم، حيث يلقي السوّاح في حوضها عملة معدنيّة، لضمان عودتهم بالتاريخ إلى المدينة الخالدة، حسب الأسطورة.

كان ذلك الإسكافيّ بارعًا في عمله، يتقنه إتقانه للغته اللاتينية الجميلة، وخاصة بالنّسبة لمتانة الأحذية التي تخرج من صنع يديه، فهو متخصّص بصناعة الأحذية التي تعلو الكاحل، وتستعمل للعمل في الحقول. وكانت الأحذية التي يصنعها، تضاهي بجودتها تلك التي تخرج من المصانع الإيطاليّة الحديثة المنتشرة في أنحاء البلاد.

أجال سكينه المسنون جيدًا في جلد الثور بعد تفصيل دقيق، ووضع الفرعة على القالب الخشبيّ الأطول، وعمل بالمخرز وبالتناوب مع المسلّة على خياطة الفرعة، ووصلها ببراعة بالنعل الذي حضّره سابقًا حسب المقاس المطلوب، وعرض الحذاء على رفٍ قبالة المارة، فلم يعره الزّوار اهتمامهم، لأنّ دهشتهم تحولت إلى نافورة "تريفي".

فلّاح وفلّاحة، من سهل "زاما" التاريخيّ، حيث هُزم هانيبعل بعد اجتيازه جبال الألب، قرّرا النزول إلى المدينة، من أجل ابتياع بعض الحاجات. وخلال مرورهما أمام محل الإسكافيّ، انتبه الفلّاح إلى خلو محفظته من النقود المعدنيّة، فدخل المحل لاستبدال العملة الورقية بقيمتها من النقود المعدنيّة، من أجل رميها في حوض النافورة لأجل أمنية، فشاهد الحذاء المعروض في الواجهة، واشتراه لحاجة له.

انتعل الفلّاح الحذاء لمدّة سنة واحدة، إلى أن جاء وقت تقاعده، فوهبه إلى جمعية خيريّة ترسل ما تحصل علية من ألبسة وأحذية، إلى البلدان الناميّة، بعض توضيبها في طرود كبيرة الحجم تدعى "بالات"، واشترى بدلًا منه حذاء مريحًا، يليق بمرحلة العمر الجديدة، حيث سيقضي وقته في تقاعده، بالسفر والسياحة في أنحاء البلاد، وفق ما توّفره الدولة له من تسهيلات وهي كثيرة.

في لبنان كلّ شيء خاضع للمساومة، ألسنا أحفاد الفينيقيين الذين جابوا البحار من أجل التجارة؟ هنا تجارة البالات مزدهرة، وحتى تلك التي تُرسل مجانًا من أجل الفقراء تخضع للعرض والطلب.

أُفرغت البالة التي تحوي حذاء الفلّاح الإيطاليّ في مدينة طرابلس العريقة بآثارها. فقد كانت قبل أن يبني أباطرة الرومان "الكولوسيوم" بعقود، عاصمة لإتحاد الممالك الفينيقية، لكن آثارها مهملة، ولا تحظى برعاية وزارة سياحة أو مديرية آثار أو بلدية على غرار المؤسسات الإيطالية التي تحافظ على الآثار في روما.

سكّان طرابلس فقراء كسكان محيطها، وخاصّة القاطنين الأحياء الداخليّة التي تربطها محلّة الجسر قرب نهر أبو علي، وهي محلّة تقع بين منطقتين فقيرتين مهملتين من قبل الدولة، هما الزاهرية وباب التبّانة، حيث أُفرغت هذه البالة في محل مخصص لبيع الأحذية المستعملة.

صاحب سيّارة مخصّصة لنقل الخضار، ينقل الإنتاج من بلدة التليل العكّارية إلى سوق الخضار في باب التبّانة، أتمّ تفريغ حمولة سيارته، وقبض إجرة نقلها، وتوّجه إلى محلّة الجسر القريبة التي تضم عدّة محلات لبيع الألبسة المستعملة، وكان أن اشترى ذلك الحذاء الذي كان مرميًا على طاولة تحوي العديد من المداسات، بأشكال وألوان، وتجتمع حولها النّساء تقلّبها لأجل شراء ما تحتاجه عائلاتها.

مساء الرابع عشر من آب، حمّل صاحب السيارة صندوق سيارته بصناديق العنب الجيّد، لنقلها في الصّباح الباكر إلى سوق الخضار، وكان وقود السّيارة يكفيه ذهابًا فقط. فتهافت مع أتراب له لملء وعاء من مادّة البنزين، من صهريج كان قد صادره الجيش. فحضنه لهيب الإنفجار، حين خرجت النار عن طوع العسكر، وأصيب المسكين بحروق بليغة ونقل إلى أحد المستشفيات المجاورة من أجل إسعافه، حيث قُصَّ حذاؤه لصعوبة خلعه عن رجليه المحروقتين.

وجاءت والدته ملهوفة مولولة للاطمئنان عليه، تلك الوالدة التي لم تحظَ بإجازة أمومة عند ولادته، فقد داهمها المخاض عندما كانت تساعد زوجها في نقل صناديق العنب. ولقيها زوجها العجوز في حرم المستشفى مطمْئِنًا. ذاك العجوز الّذي ما زال يعمل في الحقول إلى الآن، ولم يحظَ بضمان شيخوخة، قد وعده بها نوّاب الأمّة منذ عقود.

لسان الحذاء أخرس، فهل ننتظر منه أن يسرد لنا أدنى حقوق محرومين منها، ويتنعّم بها البشر وغير البشر في البلاد الأوروبيّة؟ فلو كان ذاك الحذاء يستطيع البوح أو السير، هل ينضح بأناشيد الثورة أو يسير أمام الثّوّار، أم يشهد دموعًا ذُرفت على أحبّة، وسكن الصمت بعد رنين ضحكتهم؟