مشهد مي منسّى الأخير: عامان على رحيل فراشة الأدب
21-01-2021 | 10:17
المصدر: "النهار"
هدى مرمر
في "المشهد الأخير" (دار النهار، 2003) يفتّش المسرحيّون عن أوراقهم وأدوارهم وأصواتهم وسط ركام المسرح. في وجه الحرب وتصدّع المرآة يصرخ الممثّل المجسّد كاليغولا: "أنا ما زلت حيّا!".
ومثله، ما تزال مي منسّى حيّة في كتاباتها التي تحاكي واقعنا مع أنّها كُتبت بلوعة عن ماضٍ ليته لا يتكرّر. رواية "المشهد الأخير" (2019 - 1939) هي تحيّة أدبيّة للمسرح ترياق الموت والحرب والتهجير وخزّان الذكريات وأمل الباقين. "الوجه الآخر للموت، المحكوم عليه بالبقاء". وتحديدًا، مسرح بعلبك في القنطاري الذي شوّهته يد الحرب الأهليّة اللبنانية كما قرّحت جسد الوطن بأكمله.
وظيفة المسرح هي الإبقاء على شبه حياة تربط العصور الماضية بالحاضر وتبعث بالنّاجين من الموت وتزجّهم في جحر ولادة جديدة فينبتون مع المسرح من التراب مجدّدًا. بعد الدّمار، لا يزال المسرح يحيا.
تقول مي منسّى بأنها تهرب من الواقع إلى الكتاب، وكيف لها أن تتنفّس من دون الكتابة؟ شخصيّاتها في "المشهد الأخير" يهربون إلى خشبة خلاصهم: المسرح. المسرح هو "مساحة للحياة." وعلى المسرح يتجرّدون من أسمائهم وأصواتهم وتاريخهم ويستقبلون بأجسادهم العارية شخصيّات الأساطير وأقنعتها وملابسها. هذه الشخصيّات الأزليّة الباحثة عن جسد يخوّلها أن تعيش حنقها وشغفها وغيرتها وشعوذاتها وأحقادها وأحلامها وشهواتها. "لعنة المسرح النابتة من أشواك الوجود اليابسة." يحاول الممثّل المسرحي محاربة كذبة الوجود الليليّة من خلال اختراق وهجران ذاته والتخاوي مع الأساطير التي تلده كل مرّة من رحم حكاية ما. وبهذه الولادات، يتعرّى الممثّل من واقع الحرب وتفاهة الوجود وعبثه ليجد أرضه بعد تيه ونفي أزليّ، فيستسلم لأدوار تراجيديّة تتحدّث من خلاله إلى الجمهور. يحوّل المسرح الوهم إلى حقيقة وهو ولادة ثانية للممثّل.
للمسرح طقوس وتلاحم ونشوة مشتركة وإعجاز إلهي. تنجلي الحقيقة وتتحوّل الروح وتسمو بعد صعود التراجيديا إلى أعلى نقطة ملحميّة تعبث بها الأقدار الإلهيّة وإثر نبس آخر حرف وخفوت الأضواء. تؤدّي المسرحيّة رسالتها السماويّة وتبشّر الناس بالقيامة. "مغامرة الموت والقيامة كانت تتكرّر كلّ مساء حتى أيقنّا أن معجزة التجلّي تبدأ حين تنطفىء آخر كلمة، وينوص الضوء، فيعلو التصفيق مرحّبًا بهزيمة الإنسان، بانتصاراته، بموته".
يقول له "قف وامش!" فتتداخل عناصر المعجزة الإلهية بالقيامة بالفنّ. تخلّص الموسيقى من الموت كما يخلّص اورفيوس حبيبته من الموت بعد ترويض الآلهة والبشر والوحوش بموسيقاه. من هنا تأليه الصوت الجوّاني التي يتترجم في شخصيّات الرواية كتابة وإخراجًا (منذر)، تمثيلًا (شريف وميريام)، عزفًا على الكمان (نديم)، وغناءً وتمثيلًا (سارة).
تنقسم الرواية إلى خمسة أقسام أو مشاهد تتمحور حول ثنائيّات الظلّ والضوء، الواقع والخرافة، الوهم والقدر، السحر والحقيقة، الولادة والموت، الغفران والوجود، والصمت الخارجي مقابل الصخب الجوّانيّ. كلّ مشهد أو فصل هو شبيه بمونولوغ لأحد الشخصيّات الخمس وهم: شريف، منذر، نديم، مريام، وسارة. نلج مع كلّ شخصيّة إلى عالمها وذكرياتها وعلاقتها بالشخصيّات الأخرى وبالشخصيّات الأسطوريّة. أتت ديناميكيّة الشخصيّات الروائيّة واقعيّة وقابلة للتصديق بما أنّ الكاتبة غاصت في تاريخ أو خلفيّة كل شخصيّة وبرّرت بعقلانيّة تطوّرهم حدّ جنوحهم نحو المسرح! هناك أقوال للشخصيّات المسرحيّة يتردّد صداها في أكثر من فصل ومن الشخصيّات الأكثر حضورًا هي كاليغولا، هذا الملك المتعطّش للسلطة المجنون كجنون الحرب. ينثر جنونه خارج وداخل المسرح ويزرع بذور نزعاته وأزماته في باطن شريف الذي يأبى التخلّي عن حطام المسرح بعد أدائه المشهد الأخير المسموح به وسط مدينة موشومة بالغبار.
أسلوب الكتابة يقوم على الاستعارات والرموز والوصف المكاني والزماني والنفسي بالإضافة إلى التعمّق الفلسفي والسيكولوجي في عناصر وشخصيّات الرواية. أتى السرد سلسًا. فالانتقال بين الأفكار والذكريات المرويّة كان منطقيًّا. ولكنّه سرد مضن لكثافة الصور والمشاعر المجبولة بالمكان والزمان وشخصيّات الرواية و أقوال وبواطن أساطير مسرحيّة تفرض حضورها على النص ومنها كاليغولا وإليكترا وهاملت وأوندين والسيّد وغيرهم. "أدوارنا العبثيّة لم تكن مسرحًا، كانت فعلًا وقدرًا".
ما بين عودة الابن الشاطر وقتل الأمّ لنحيا، انصهار كليّ على الخشبة ومع الموسيقى والأزياء وأرواح الأبطال الأسطوريّين وموعد مع الذات وتجلّيها بولادة مقدّسة. "كنت أقف على المسرح بوجهي الميت المتنكّر بوجوه الحكايات لأحيا".
"اللغة يقيني أنّي لست دخيلة على هذه الأرض، ملقّحة بموروثات حملتها منذ التكوين".
لا انتماء. غربة في الارض وغربة تجاه الام الغائبة إما جسديًا أو نفسيًا. الممثلين يستعيضون بالمسرح رحمًا بديلًا عن رحم الامّ ورحم الارض الضيّقَين.
لا شكّ أنّ الابداع والمتانة في اللغة والانتقاء الموفّق للمصطلحات المستخدمة هو من سمات كتابات مي منسّى ونجد ذلك بارزًا في هذه الرواية قليلة الأحداث وعميقة الأفكار والثيمات المطروحة. لا أعتقد أنّ هذه الرواية مناسبة لكلّ من يبحث عن أحداث متسارعة مشوّقة وبنية روائيّة قصصيّة تقليديّة. إنها رواية لا تشبه أيّ رواية قرأتها قبلًا من حيث الشكل والبنية إذ تدور الحبكة في دوائر متوازية ومتلاقية وترسم لوحة مؤلمة بألوانها وتأثيرها مثل معزوفة تراجيديّة لغوستاف ماهلر.
أرى أنّ الفكرة المفتاح لهذه الرواية تكمن في النظرة إلى الفنّ على أنّه السبيل الوحيد لمواجهة واقع الحرب والموت واليأس. الفنّ المسرحيّ والموسيقيّ هنا هو الندّ الوحيد لهدير المدافع والقنابل وسفك الدماء. المسرح بكلّ عناصره يعطي صوتًا يعلو على الخراب ويعطي معنى وجوديًا يقهر القلق الميتافيزيقي المعشّش في جوف كلّ من بقي.
"خشيت وأنا أحدّق إلى الورود الجافّة في المزهريّة، الحاملة في غبارها تاريخ وفاة جدّتي، أن يكون في ألوانها المائلة إلى دم عتيق إلحاح في نقل الماضي إلى هذا الحاضر الخارج عن نظام ساعات المدينة المهرولة كخيول جامحة".
كانت تكتب مي منسّى كي لا تنسى، وعلينا ألّا ننسى علّنا نعتبر من مآسي الحرب وتلوّث وطننا بغبار الموت والفقدان والفراق، بخاصّة بعد فاجعة تفجير مرفأ بيروت وفي ظلّ الانهيار التام الحالي. ويبقى الأمل ألّا يكون مشهد لبنان الأخير تراجيديًا بعد إغضابه آلهة الأرض والسماء وما بينهما.