"أبعد من حدود الوجود" لمارلين سعاده: قلادة حنين على عنق الأدب
20-10-2020 | 10:49
المصدر: "النهار"
كتب يوسف طراد
عندما تقرأ كتاب "أبعد من حدود الوجود"، لمارلين سعادة، الصادر عن "مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية"، يتهادى الشغف اختيالًا في أرجاء رغبة حالمة، وتتحرر الحواس من أثقال الأمنيات الساكنة، لترسم على عنق الأدب قلادة صُكّت شبقًا جارفًا من ثنايا صحوة آلهة الحكمة والشعور السامي.
حلمت بمستقبل لقاء من الماضي مع أبيها، فكان الحلم عتبة الكتاب بعد التمهيد والتقديم الذي كتبه الدكتور ربيعة أبي فاضل، ووُشم البوح سفرًا للعودة إلى النوستالجيا، من خلال نص جميل يسكنه الحنين بعنوان "موعد مع أبي".
هنا منبع الكلام وشلّال "الجليد المتّقد" الذي تناثر بوح أسرار مع أشعة أذابت جليد القلوب: "ومِن جناين قلبك قَطَفتلي ثْمار/ طعْمْها حلّا مرّ أياّمي".
دمية اختالت في "أرجوحتي"، عندما مرّت الصفحات وأيقظت قلبًا حزينًا تربّع في حضن الاشتياق. هربت من "كذبة" العمر مع دوستويوفسكي حين قال: "داخل كلّ منّا، طفل يتوق إلى اللعب"، عندما باحت بسرّ الشباب "...وأنّنا لا نشيخ، نكبرُ ولا نشيخ!"، فحملت النذر إلى صومعة الحزن عبر "بوّابة عبور أبدًا موصدة". مهما دارت مع الأرض التي "دومًا تدور"، تحتمي بنقاء الحب وفاءً، ويغفل عن الوصل الزمان: "فأنّى أخذتني الريح/ الًا لك أنت لن أكون ". كأنما الشمس على دروبها المرسومة، تُلهب المروج اشتعالًا في الصدور، فللشاعرة حبيب أنهل من ثغره ضوع الخمور، وملكا الحبّ وعبق البخور: "بُعدُ الأرض عن الشمس/ شوق اليوم إلى الأمس/ توق الروح إلى الحرية/ عشق النفس للأزلية... أنا وأنت".
أراجيح العيون المسافرة، تلقي أجمل الشعر في الصمت: "تسافر بي حكاياتك على بساط الأراجيح". حديث (ورقة وقلم): تدعوه ليختال ويمرح ويعطيها ما حلمته من روح وفرح، تعلم أن الحبّ ليس قياسًا، طالما صوت الصرير عزف سوادٍ على بياض: "فيملأُ سنيها سوادًا مقيمًا...". كل الجهات في عمق الجراحات ليالٍ، فلا الشرق شرقًا، ولا الشمال ولا الجنوب "من غيرك يا ليل؟!" يحقق أماني الصدور.
الغلاف.
هل يعقل أن يأتي فارس ملثّم من القدر، ضاق بالحبّ صدره فانفجر، "رهان" وكلمات مشتاقة وأحلام مطوية: "فرشتها لرحابك سماءً". كان الماضي يحبس آهات حبيب يسمع كل أحزان وأفراح الحبيبة: "كم من سرٍّ/ من حرارتها فاح عطره". عندما يغور الحبّ في أعمق المآقي: "ستبقى حاضرًا في كياني حيثما أسير". كي لا يصبح العشق حلم الهوى المشرّد، كان "خشوع" يوقظ الجَزَع إذا تبدّد: "بكل اللغات التي أتقنها/ والديانات التي أعرفها/ سجدت جسدًا وروحًا/ خاشعة لك، أصلي". في "صحراء" كم من أحلام تعربد، لكن باب المرام أمامها موصد: "ناديتك راجية جواب تعزية/ فردَّ الصدى/ يا لظلام نهاري!". لماذا رحلت أيها العاشق الباكي وفي البساتين أبدلت الرياحين بأشواك؟: "كيف أمكنك أن تدمِّر بستان أحلامي... من أين آتي بأحلام جديدة؟!". عندما تميل أوراقها وينده حبرها هلميِّ، يبقى الشوق يصرخ بلوعة الألم: "حفرت إسمي في قلب التاريخ/ بشهب يراعي وبارق حرفي/ وصرت الحكاية وصرت الرواية/... وبقيت وحدك نقطة ضعفي".
فّجّرت كوثرًا، وأيقظت حلم عناق مع قلم: "تعال عانقني!/ فليس سواك/ يا قلمي، صديق/ يذود عن فكري/ ويزيل عن قلبي/ هذا العذاب". لم تُحجب عنها خفايا البهاء، فبان وهج الحق العنيد: "وخلف السكون لمحت بريقًا/ يشي بما تحت الصخور من درر". هموم كثيرة تتلاحم، تحطم الرأس وفيه تتزاحم: " قد كان صدرك لي ملجأ/ لديه أهرع فيحضن خلجاتي/ فبات الجلّاد، المرهوب قربه/ يرمي عليَّ حكمه كالسياط!".
الكاتبة مارلين سعادة.
ابتهلت مارلين سعادة بصمت صلوات الشوق ودفء الحواس. كتبت لتزيّن الحياة بالورود، وينتصر الحب وسط السراب. فكانت رسولة الأمل والأمان، التي أسدلت ستائر النجوم البيضاء لأحبة في زوايا العتمة. حضنت من يمنحها الفرح والمحبة ويحييها بضحكات هاربة من الوجوه المسقومة.
كثيرات هنّ الشاعرات في الدنيا، لكنّ مارلين، وبسحر غريب من حبرها، الذي يحوي احساسًا يصعب إدراكه، جعلتنا أسرى خواطر لها نقش الرجاء، وحلّق طيفها بعيدًا "أبعد من حدود الوجود".