الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"القومية اللبنانية في فكر فيليب سالم": طرح يبحث عن قيامة وطن

المصدر: "النهار"
غلاف الكتاب.
غلاف الكتاب.
A+ A-
 
أنور حرب- رئيس تحرير "النهار" الأوسترالي- سيدني

حين يصدر كتاب في زمن القحط الفكري والأدبي، تضع يدك على قلبك خوفاً من ان يتماهى الوليد الجديد مع موضة "تفقيس" الكتب. لكن ما إن تقرأ عنوان الإصدار الجديد للزميل والكاتب والمحلل اسعد خوري "القومية اللبنانية في فكر فيليب سالم"، تدرك أنّ المادة مختلفة والنتاج راقٍ، والمضمون زاخر... كيف لا وهو يتناول طرحاً لقامة فكرية يعتبرها النقّاد مرجعاً تعود اليه كلما بحثنا عن وطن يذكّرنا بمدينة الفارابي الفاضلة.
 
قد لا يتسع حبر الكلمات للكتابة عن فيليب سالم الذي عوّدنا ان يمسح الحزن عن وجه وطن الأرز، مثابراً على تصويره بأنّه ليس مجرد تراب وجبل وبحر وأنهار ومشاعر بل هو ناس نحب، وعلى وجوههم يعمل لينتزع الآخ والوجع وعلامات الرحيل، وليُسقط من أياديهم حقائب الوداع الحاملة في أحشائها أخبار الموت الجماعي والجوع والاستبداد.
 
الكتاب المتزامن مع مئوية لبنان الكبير، هو نقلة نوعية إذ يعالج قومية حضارية مطعّمة بمفاهيم ومنطلقات ومبادئ أحد أركانها الكبار الذي يتطلع اليه المثقفون كوديعة وطنية علمية، وقد ترقرقت عيناه بالدمع والوجع والغضب على مغتصبي الحرية والاصلاح، فوضع أساسات لقومية تعانق الآخر ولا تنغلق على نفسها لتتحول وصية للأجيال الجديدة، على أمل انتشال الكيان الحزين من خرائب الذاكرة والركام والحطام، ليعود لبنان الأرز والبخور والأمانة والحلم الذي لا ينكسر ولا يموت.
في المئوية الأولى، أين فكر سالم من هذا اللبنان المنكوب، بدءاً من مرفأ بيروته ست الدنيا المشلّعة الى آخر دسكرة فيه؟
 
أين وطن الرسالة القدموسي الذي آمن به "البطرّامي" الباحث عن القيامة والأقحوان واللوز والزيتون والكرمة والكرامة والجمالات المنتشرة فوق التلال كثريّات طبيعية معلّقة بين السماء والماء، وعلى شفاهها زعل وخوف وقلق؟
 
"السالمي"، ذاك العاشق للوطن - الحلم، يكتب بأبجدية الانتصار على الفشل، ويمتطي أسلوباً فيه مزيج ساحر من علامات الفرح والرجاء والبقاء.
 
 
والناشر الخوري جهد تنقيباً عن مطلقي القومية اللبنانية مقارنة مع فكر سالم وطروحاته المتماهية معهم من حيث الهدف، والمختلفة عنهم من حيث السبل الكفيلة بتحقيقه.
هناك العديدون غاصوا في القومية اللبنانية، وضعوا مداميكها وتعرضوا بسببها للتجريح والنقد حتى التخوين، لكن هؤلاء هم أصحاب مبادئ سيادية حيادية وفي طليعتهم شخصيات وطنية وروحية وفكرية تاريخية منهم المثلثا الرحمة البطريركان اسطفانوس الدويهي ونصرالله صفير ويوسف السودا وميشال شيحا وجواد بولس وسعيد عقل وكمال يوسف الحاج والمفتي حسن خالد، وطبعاً شارل مالك.. وأخيراً لا آخراً البروفيسور فيليب سالم المسيحي المؤمن على انفتاح وعلمانية، المجسِّد لهوية مفقودة، المجدول على عروبة ذكية، ما جعله جسر عبور الى أخيه المسلم كونه داعية سلام وتسامح وتعايش وتفاعل حضاري.
 
الفرادة في سالم ان قوميين لبنانيين بارزين "نفروا" من العروبة، فيما هو انتمى اليها بمبررات واقعية بعيدة عن مذهبيتها وطائفيتها وتخلّفها.
 
سالم، لمن لا يعرفه، يطرح افكاراً ليس لرفد أي عمل سياسي او فكري بفلسفة او بشعار، بل بحثاً عن وطن يعاني وخروجاً من أنفاق سوداء وحفاظاً على حضارة ترعرعت على شواطئ بلد عبده بعد الله ولا يريده ان يظل في مواجهة دائمة مع الحروب والصراعات والفرضيات العبثية.
أراد سالم من قوميته التغلّب على المستحيلات بالعقلانية وليس بالغرائزية او بالنزعة الدينية المرصودة على توجّه مذهبي. وما أقدم عليه لم يتجرأ عليه آخرون، إذ كرّس نهجاً يتجاوز التقليدي والكلاسيكي ليؤكد ان ما بين الوطن والدين علاقة معنوية ولكن لا زواج بينهما، ولذا كان في مسيرته الفكرية من مؤيدي العلمانية المؤمنة خارج الإلحادية او النمطية المذهبية المتعارف عليها عند بعض أركان القومية اللبنانية.
 
قد يقول البعض إنّه سليل عائلة القومية اللبنانية، إلا ان سالم في الواقع هو خارج التوارث كونه صاحب مسلك يخصه دون سواه. مسلك مكتظ بالطروحات والاجابات ويسبر أغوار القومية كمشروع إصلاحي يتحسس الهواجس ويؤسس لبنية فاعلة تساهم في بقاء لبنان في أزمنة التشدد و"الفابيو" الداعشية المتعددة التسميات والهويات التي أدت الى متغيرات خطيرة.
 
سالم بالمطلق، وكما يلقي الناشر الخوري الأضواء على شخصيته، ليس "بيّاع" شعارات وأوهام، بل هو خزّان قيم فكرية وفلسفية تنتمي الى الحداثة دون ان تهمل لا التاريخ ولا الجغرافيا، إذ شكّلت مساحة للنقاش الجدي والسليم حول علمانية ليبرالية محصّنة بحقوق الانسان.. علمانية غير ماركسية وليست لينينية او ماتسيتونغية لابتعادها عن الاشكاليات والفوارق الاجتماعية المطروحة دائماً في جدليات تنظيرية.
 
واذا كان المشهد السياسي في لبنان يتخبّط في صخب الطروحات المتناقضة، فان قومية سالم بسّطت المفاهيم والرؤى حول تيارها وثقافتها، إذ اعتمد على مواجهة الطروحات الممانعة لقوميته بالاتكاء على تجربة مميزة قد تكون في بعض الاحيان تأثرت بنسيبه شارل مالك، لكنها حسمت موقفها وموقعها باستقلالية وصدقية لا تشبهان أي شخص او أي طرح آخر.
 
اسعد خوري الصحافي المتمرس، وجد في سالم مصدراً ومادة لكتاب قيّم، وبذلك أدخلنا في دينامية النقاش حول طرح قد يُخرج لبنان من أزمات ارتكزت على الاغتيال الجسدي والاقتصادي والسياسي والاخلاقي والمعيشي، في حين ان ذاك "البطرامي" المؤمن بقيمة المحبة وبأولويتها على المعرفة، مؤمن أيضاً بفلسفة الحياة والفرح لقناعته ان الله والوطن هما حياة وفرح.
 
دخل الزميل الخوري في لعبة التأريخ عن قومية مطلوبة ومنقذة. ولا أخفي عليكم اني من أنصارها وداعميها لانها تلامس السيادة ومقومات الحرية، وترتكز على حياد فاعل طرحه سالم وكذلك البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كخصوصية يجب ان ينعم بها لبنان في محيط هائج مائج.
 
الكتاب بمضمونه، بشخصيته، بناشره، بعمقه وبمقارنته مع مفكرين بارزين، هو انجاز كم نحن بحاجة الى دراسته والتعمّق به، لان القومية اللبنانية ليست شعاراً او فلسفة او عقيدة حزبية، بل هي إنقاذ لوطن يبحث عن دستور جديد وتحوّل جديد وخلاص ينشله من مقصلة الإعدام. وأنا مقتنع بان البروفيسور سالم قامة فكرية وطنية من الواجب ليس قراءتها فحسب بل تدريسها وتعميمها لانها منبر لقومية لبنانية نحتاج اليها لقيامة موعودة ليست مستحيلة.
 
فطوبى للذين يصنعون قومية لبنانية ديموقراطية حضارية رائدها سقى زهرة في حديقة وطن متعطش الى احلام لا بد ان تنتعش وتستيقظ على وقع قطرات الأمل التي تساقطت من عيني وفكر وجوارح البروفيسور فيليب سالم.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم