السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الحنين إلى الماضي جمالٌ معصورٌ من الألم

المصدر: النهار
يوسف طراد
الحنين إلى الماضي (تعبيرية).
الحنين إلى الماضي (تعبيرية).
A+ A-

تقول كريستين باتشو الخبيرة في النوستالجيا: "إنّ الحنين إلى الماضي حلوٌ ومرٌّ."

من الطبيعي في فصل الصيف، وفي هذه الأوقات العصيبة بالأخصّ، أنّ نشعر بالاشتياق إلى أوقات مضت. فالشعور بالحنين إلى الماضي وما فيه من سعادة يشوبها الألم، يجعلنا نتذكّر الباعة المتجوّلين الذين كانوا يأتون إلى القرية، حاملين الأطايب الغريبة النادرة، في ذاك الزمن القاسي من ستّينيّات القرن المنصرم.

في ذاك الزمن الصعب الذي يلقّبونه اليوم بـالزّمن الجميل، كان دبس العنب مكوِّنًا أساسيًّا في صناعة الحلويات المحليّة، في غياب مادّة السكّر. فقد كانت تُطبخ به حلويات المونة كالتين المهبّل، وتُصنع منه باقي الأطايب كـالسفوف أو الصفوف والشملطحة”.

وبسبب أحادية دبس العنب في عالم السكّريّات في ذاك الحين، كان الصّغار يستطيبون الحلويات المتنوّعة المصفوفة على الصدور التي يحملها الباعة المتجوِّلون، لاحتوائها على مادّة السكر التي كانت تمنحهم مذاقًا مختلفًا عن ذاك الذي اعتادوا عليه بطعم الدبس. وقد كان من النادر جدًّا حضور هؤلاء الباعة إلى القرية.

هذه الذكريات ليست من نسج الخيال، بل هي حياة عشناها في قرية تبعد عن طريق الأرز حوالي كيلومترين، ولم يكن يربطها بالمدنيّة أي طريق. فطريق المعبور التي كنّا نسلكها على الأقدام، هي أحد الطرقات البريّة الضيّقة التي كانت تربط القرية بمحيطها.

ولأنّ بائع القرمش، قد ثبّت موعد قدومه خلال فصل الصيف، يومًا كلّ أسبوعين، اختار أن يكون يوم خميس، اعتبارًا من شلاهيب العنصرة إلى عيد مولد العذراء في الثامن من شهر أيلول، فقد كان همّ الأولاد الأوحد خلال هذه الفترة، الحصول على الفرنكات. فمنهم من كان يحصل على فرنك مكافأة من جدّه على صنيع قام به، ومن لم يكن لديه جدّ أو والد من الميسورين، كان يأخذ البيض البلديّ خلسة من معشّة القن، أو من مكان إباضة الدجاج في الوعر القريب من المنازل، ويبيع كلّ بيضتين بفرنك واحد، من صاحب الدكّان الوحيد في القرية.

عندما كان يطلّ بائع القرمش عن المعبور، كان يطغى إيقاع صوته على رتابة الأصوات في القرية، من زقاء الدجاج ونهيق الحمير ونباح الكلاب... فينادي الأولاد بعضهم بعضًا، متهافتين للقائه بين الأزقّة وعلى الطرقات الضيّقة المليئة بالحصى، وقلبهم يخفق مع كلّ خطوة يخطوها، مخافة أن يقع أرضًا وتسقط الأطايب على التراب ، كما حصل معه في أوّل زيارة له إلى القرية.

أمّا الأولاد الذين لم يكونوا يملكون من النقود شيئًا، فقد كانوا ينزوون في زوايا الخرائب القديمة المكشوفة، متحسّرين على حظِّهم العاثر، لإخفاقهم في اختلاس البيض، منتظرين تلك الصبية الجميلة التي كانت تُطعم كلّ أسبوعين اثنين منهم، لأنّهم كانوا يعلمون بأنّ البائع هائم بها، ويعطيها من القرمش بدون حساب. لذلك كانوا يساعدونها في حمل الجرّة من العين، علّ القرعة تصيبهم، وينعمون بإصبع من القرمش اللذيذ.

كان البائع يحمل على رأسه صدرًا من الألمينوم، ويضع تحته لفّة مستديرة من القماش، مهمّتها تقتصر على تثبيت الصّدر وتخفيف ثقله. وكانت تتدلى من كوعه، سيبة مثلّثة الأضلاع، تنتهي عند أعلاها بدائرة، يضع الصدر عليها، ليتمكّن من إعطاء الأولاد ما يطلبون من القرمش الذي كانت القطعة منه بطول علبة كبريت واستدارة عصا عجوز، وثمنها خمسة قروش، أي فرنك. كان ينادي على بضاعته بطريقة كاريكاتوريّة محبّبة "قرمش بفرنك، قرمش بفرنك... قرمش لا بيعض ولا بخرمش."

ذات يوم، تخلّفَت تلك الصبيّة المغناج عن الحضور، إذ منعها أهلها، ليس لأنّهم علموا بغرام البائع بها، بل لأنّهم فقراء ولا يملكون ثمن الأطايب، فوقفت شهامتهم عائقًا في حصولها عليها. لكنّ ذاك المراهق،بعينيه الزرقاوين وبشرته السمراء التي لوّحتها شمس الصيف وهو يتشيطن فوق الحفافي، كان أوّل العالمين بحسرة البائع، حين سأله بطريقة تنمّ عن الهيام، عن تلك الصبيّة وسبب غيابها، فلمّح له سرًّا بأنّه سيساعدها في حمل الجرّة وقت العصر، فما كان من البائع إلّا أن حمّله القرمش ليرسله لها مع سلامه، وأضاف أجرة التوصيل المستحقّة، ثلاثةً من أصابع القرمش اللذيذ، كلّ إصبع بلون!

وقد سرت تلك الاتّفاقيّة السّريّة غير المشروطة، طوال الصيف، ما جعل ذاك المراهق يستغني عن خدمة جدّيه، أو مشقّة انتظار الدجاجة )الطوزة) لتضع بيضها، وانصرف إلى اللعب من دون أوقات مستقطعة...

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم