إلى سارا صفيّ الدين التي لم يسمعها رضا: جاهزون لسماعك أكثر!

حقيقة أن تكون رواية "اسمعني يا رضا" للكاتبة الشابّة سارا صفيّ الدين هي الأولى لها، تخلق لدى القارئ انطباعاً سيلامس اليقين بأنّها تجربة كاتبة متمرّسة، وأنّه حين أينع القطاف أبصرت باكورتها الأدبية النور في تمّوز الماضي في إصدار عن دار هاشيت-أنطوان/نوفل.

تتشابك عناصر مثيرة في هذا الإصدار، ليس في جديدها القول إنّ عنوان "اسمعني يا رضا" خيارٌ جذاب وناجح في اصطياد الفضول.

وإن كان أنيس فريحة وظّف حكمته لسرد ذكريات لابنه، نجد في الرواية حكماً تتوالد على طول استرجاع سارة، الفتاة العشرينية، تفاصيل علاقتها بالحبيب-الزوج الذي غاب فجأة عنها، فشكّل غيابه مفصلاً لتتخذ موقفاً عاطفياً ننتظره بشوق حتى اللحظة الأخيرة، فيما يلحّ علينا سؤال: هل ستغفر سارة غياب رضا مثلما حافظت دوماً على صمام أمان العلاقة أمام حماقته ومزاجيته ولامبالاته، أم ستنتفض عليه؟

سهولة التعبير الذي يفيض بدون شرطة أخلاقية أو بطولات تدّعي شجاعة ما أو نسويّة ما. نقطة صعبة تصنع الميزة الأهمّ لهذا السرد. تقرأه أو "تسمعه" دفعة واحدة، فيما رضا غائب عن السمع. رقّة البوح التي تبلغ حدودها القصوى فتغدو جارحة.

تضعنا الكاتبة أمام إشكالية بل صراع تعيشه المرأة "المودرن" في أيّامنا هذه. ذلك أنّ النمط العاطفي الحديث يفترض بالمرأة "القويّة والمستقلة" أن تدوس على مشاعرها وتضع الحبّ بمنزلة ثانوية في ترتيب حياتها. ينتظر المجتمع من المرأة أن تكون متعلّمة، وعاملة ناجحة، وفي المنزل زوجة مطواعة لا تتخلّى عن دورها الذي لم يعفها منه لأنّه لا يزال مجتمعاً تقليدياً في حقيقته. أولويات طاحنة عليها أن تكرّس نفسها لأجلها، إلّا الحبّ الذي لا ينبغي الوقوف عنده أو البكاء عليه. ثمّة ثقل في المشاعر تعيشه المرأة العصرية، فتكبته حتى لا يعيبها القلب أو تُعيَّر به.

سارة، ابنة الضيعة في صور التي نزحت إلى بيروت، جعلت رضا محور حياتها، فلم تتابع الدراسة، ورتّبت من بيتها الزوجي حدود عالمها. تحمّلت شواذات حبيبها، وتخلّت عن أيّ طموح مهني. خيارات لا شكّ في انصياعها للقلب دون غيره.

لكن، أيّ امرأة امتلكت فعلاً جرأة الصدق؛ أن تبوح لنفسها أولاً، ثمّ لشريكها، بحقيقة مشاعرها؟ سارة فعلت:

"ما زلت امرأة تحتاج إلى رسالة عليها عطر، أو إلى كلمة، أو حتى نظرة. أنا إنسان والإنسان لا ينتهي يا رضا. لماذا عليّ أن أشعر بأنّ للحبّ والاهتمام صلاحيةً تنتهي؟ كأنّ الأمسيات الرومانسيّة لا تليق إلّا بالحبّ الجديد. كأنّ أغاني الحبّ والورود لم تعد مسموحة لأمثالنا".

من خلال إرادة الكتابة، ساعدها البوح-السرد، لتقيّم حياتها على مسافة أفضل، بعدما وضعها غياب رضا على سكّة الشفاء من مشاعرها: "يا رضا، أجمل ما في الكتابة أنّك لن تقاطعني".

يشكّل الغياب محوراً مركزياً في الرواية، فهي فقدت أولاً أمّها وأباها، وعاشت على ذكرى عمّها الذي قُتل خلال الحرب اللبنانية، ثمّ فقدت جدّها، ما يفسّر في حيّز كبير التعّلق بحبيبها إلى حدّ النكوص الطفولي.

لا شكّ في أنّ "اسمعني يا رضا" مادّة قابلة لدراسة نفسيّة-سوسيولوجيّة يصحّ لها أن تنطلق من الهيمنة الذكوريّة التي نشأت عليها سارة. باستثناء صورة الأب العطوف الذي يعرف كيف يحبّ ابنته، نجد بيئة كاملة تترصّد حياتها في كلّ صغيرة وكبيرة، والعمّ الذي يبرحها ضرباً، والعراكات العنيفة بين الأب والأم، والجدّ الذي لا يتوانى عن ضرب الجدّة، ورضا الذي صفعها.

غير أنّ صورة الأب ساعدت سارة أخيراً لتقيم مقارنة بين ما تحبّ وبين ما تتوهّم أنّها أحبّته في علاقتها مع الزوج. صراع في الداخل مع عدة نماذج ذكريّة يضعضع مشاعر سارة: "أنا غاضبة من رضا كثيراً. وأيضاً أشعر بالقلق عليه. لا أعرف. أشعر بأنّه عندما يكون شخص ما بعيداً إمّا أن يكرهه الشخص الآخر أو يقع في حبّه بإفراط. أنا لا أعرف ماذا كنت أشعر تجاه رضا. شعرت فقط بأنّني لم أعد أعرفه".

ومع كلّ ما تقدّم، لا تملي الكاتبة على القارئ أن يتّخذ موقفاً أخلاقياً. هي تسرد يومياتها ببراعة أخّاذة فحسب، وبصدق قد يستفزّ القارئ أحياناً ويثير غضبه ضدّ الصبيّة الّتي بذرت الكثير من التضحيات في أرض بور.

وتتقاطع مع ثنائية غياب/انتظار، مسألة الوقت التي تتخطّى هنا الهاجس اللصيق بالأدب الرومنسي. صنعت صفيّ الدين من الوقت عنصراً روائياً متعدّد الأدوار. يحذو بنا الوقت لمشاهدة سارة، لا فقط سماعها أو قراءتها. فيما هي تمثل أمام عنصر المخفر لتبلغ عن غياب رضا، صهرت بطريقة انسيابية الماضي بالحاضر من خلال تقنيّة الرجوع إلى الوراء (فلاشباك) المألوفة في السينما: "صوت عقارب الساعة يعلو مجدّداً. لكن عندما رفعتُ رأسي، وجدت نفسي أنظر إلى ساعة المخفر". ولا عجب من ذلك في خلفية دراستها السينما، وفيلم "اسمعني يا رضا" الذي أنتجته لاحقاً عن الرواية ذاتها.

تمنحنا الكاتبة متعة الدخول في أجواء بيروت الحقيقية، من لهجتها المحكيّة، وقصص الجارة، ويوميات الأخيرة مع طفلها الشقيّ، ومجتمع العمّال، وشكاوى سائق التاكسي... مشهديّات أغنت الوزن السمعي-البصري للرواية وموضعت الشخصيات في بيئة مكتملة المعالم، فأهّلت كلّ شخصية لأن تكون نموذجاً مجتمعياً.

في الهامش، يؤخذ على سارة وقوعها في كليشيه مقاهي الحمرا في بيروت، ودورها في غراميات ومواعدات الشباب. قد يكون هذا الإطار صالحاً أكثر لشخصيات في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ثمّ التسعينيات. غير أنّ هذا التصوّر لا يلغي قرار كلّ كاتب أو فرد بخوض تجربته في مقاهٍ وشوارع محدّدة سيخضعها الحبّ لإسقاطاته.

"اسمعني يا رضا" عملٌ سالب للقلب منذ السطر الأول. يعطي أملاً بالتجارب الشابّة في أسواق تكاثرت فيها الكتب وشحّ فيها الأدب؛ سارا، لتسمعينا أكثر!

 

*تستضيف "الجمعية اللبنانيّة للقراء" الكاتبة سارا صفيّ الدين في جلسة نقاش حول روايتها الأولى "اسمعني يا رضا" غداً الخميس في تمام الساعة السادسة والنصف  مساء- مقهى برزخ (الحمرا).