الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

التجديد والاختلاف في الكتابة الروائية: "الجنّة أجمل من بعيد" لكاتيا الطويل

المصدر: "النهار"
غلاف الكتاب والكاتبة كاتيا الطويل.
غلاف الكتاب والكاتبة كاتيا الطويل.
A+ A-

عبد الغني صدوق/ كاتب جزائري

أضحتِ الأساليب  في الكتابة الإبداعية- ولاسيما الرواية- شُغلاً مهمّاً يلجأ إلى تجويده المبدعون لعِلمِهم أن النّصوص المُعاصرة لافتة من أساليبها؛ لأنّ اللغة تستمدّ قوّتها من التراكيب، فمِن غير المعقول أنْ يختار قارئ أدبٍ رواية مُملّة، لطبعه الباحث عن المُتعة، المُتعة التي لا تتحقّق إلّا بتعاقب الأحداث وتسلسلها وجنوح الخيال.

في "الجنّة أجمل من بعيد" (دار هاشيت أنطوان/ نوفل 2021)، للكاتبة اللبنانية كاتيا الطويل، نجدُ أسلوباً جديداً، يقحمنا في النّص كمشاركين في الإنتاج مع الاستهلال، إذ يقول الراوي: "أعلمُ أنّكم فتحتم صفحات هذه الرواية" وسرعان ما نعلم أنّ المتكلّم ليس بكاتبِ ولا راوي، إنّما هو شخصية غير مكتملة البناء داخل المتن تستعد لأداء دورها، وترجونا بأنْ نصبر معها حتّى ينساب السّرد، وهو طلبٌ مشروع لبّيناه وواصلنا القراءة، علّنا نتبيّن مضامين النّص فنحظى بلحظات انتشاء فكري، تواجهنا الشخصيّة كناقد حصيف عارف للأمزجة والأذواق، فالكتابة مأساة حين الإقبال وحين الإدبار، أين العلامات الدالة على تشكّل الجنّة مذ قرأناها كعنوان جميل؟ أدرك البطل ذلك في ذواتنا فقال "تقولون عنّي أنّي ممّل وبطيء".

يُصاب الكتّاب بما يُعرف بالحَبسة، حالة انتظار النّجوى، أو السّعي إلى التفكير في الخَلاص من النّص قبل البدء فيه، مخاض قد يستمر حتّى آخر نقطة إنْ لم تكن خطوط البناء مرسومة، كما نسلّم أنّ هناك نصوص منتهية لم تكتب؛ متخمّرة في الرؤوس تنتظر شرارة مِن مُبدعيها فتأتي طائعة، إذاً لكلٍّ منّا جنّته يستحضرها متى شاء، ينزلها على الأوراق أو تبقى في الذاكرة، إذْ لا بدّ مِن تلاقح القدرة والإرادة لكي تحبل الرّواية، فالنفس الكاتبة متأثّرة بالمُحيط والكِتاب، تعيش تارة ذروة الإبداع فتكتب ما إنْ عادت لقراءته –بعد حين- تكاد تُكذّب أنّها صنعَتْه، وتارة يخفتُ بداخلها صوت الكتابة فتهجر المحراب، يقول البطل مِن جنّته "أظن أنّ خالقتي اكتشفتْ ذات مساء أنّها تشعر بالملل".

إلى متى ستظلّ الرواية العربية مصلوبة؟ إمّا أنّ هناك رقيب لا يفوته أدب شارد يقضّ مضجع السُلطة إلّا ووشى به لديها فيُمنع، وإمّا أنّ المادة المراد نشرها تخضع لقراءات راضية تحمي الناشر من بطش السُلطة فتُطبع. إنّ العصفَ بالمعرفة في وقتنا الراهن لهو السبيل الأنجح لمدّ جسور ارتقاء الفكر المبدع في مجالات الحياة، ولأنّ المجتمعات المثّقفة مجبولة على الإنصات والملاحظة والتأثر مع مَن يحاكي أوجاعها - بأيّ فنّ- فإنّ الرواية كخطاب حاضر ومعاصر باستطاعتها أنْ تسمو بذوق النُّخبة كنصٍّ مقروء وبالقيّم الإنسانية كنصٍّ مرئيّ، وأسفاه لمّا أقرّ البطل من جنّته "أنا عربي يبحث عن عذر ليموت فقط. كأي عربي آخر".

الرواية طقسٌ متقلّب، تبدأ هادئة ثمّ الضجيج والعكس جائز، يجتهد كاتبها ليُمرّر أفكاره بين ثنايا السرد، ولن يتأتى ذلك إلّا باتساق اللغة مع الثيمة، وتبقى مساحة شاسعة مجالًا للتلقي؛ للتفكيك والتركيب، فإذا نجح الكاتب في هذه المُهمّة، فتح أبواب الجنّة، والحقّ أنّي رأيتُ كاتيا الطويل استطاعت بلُغَتها العَذبة أنْ تحجر علينا في روايتها، فكلّما توقّعنا ظهور حدث خارج الغرفة، كسرت أفق انتظارنا بنفْسِ الشخصية المتكلّمة من الجنّة في خطاب جديد، يبعث على تتبع السرّد بنَفَس جديد، إذْ يقول البطل "وصلتُ إلى هذا المأزق الّذي أنا فيه الآن. مأزق العيش في جنّة بلا نهاية. بلا موت".

عادة ما يحدثُ جدال بين الكاتب وشخصيّته أثناء السفر في الرواية، لأنّ الأخيرة كانت نائمة في جنتّها، أيقظها بعبارة فصارت تُملي عليه كيف يجبُ أنْ تعيش، تتضارب الرؤى، يتخاصمان، فيقع الفراق إمّا بالموت أو الازدراء إلى حين، فإذا ما أطاعتِ الشخصية رأياً مال له الكاتب- في فلتات الحكي- قبل الخصام فإن ذلك يظهر للمتلقي كتناقض في الأفكار أو الوقوع في فخّ المباشرة، وإذا ما أصرّت على العصيان فواجب على الكاتب أن يُجاري تمرّدها حتّى لا تكون عبئًا على النص،  ها هما حزينان في العبارة "لا أدري. لكن أحدنا اتّخذ قراراً مؤسفاً أوصلنا إلى نقطة اللاعودة التّي نحن عالقان فيها. لا هي تكتب ولا أنا أتصرّف".

إنّ الفنّ في نظر جورج لوكاتش هو ِنتاج طبيعي لما يؤول إليه الوضع الاقتصادي والسياسي، وأنّ المثقّف الحقيقي هو مَن يقف بثبات في مواجهة التاريخ بالأدب ومواجهة الأدب بالتاريخ. يلجأ بطل الجنّة إلى اقتطاف نبذة من حياته يصف بها ماضيه، مقارناً بين والدته ووالدة الطاهر بن جلون في صحّتهما، واستحضار السيّد أحمد عبد الجواد من ثلاثية نجيب محفوظ كمتردد على جوق النساء، نلاحظ أنّ الشخصية فريدة التكوين، في الستينيّات عندما كانت بيروت تعيش عصرها الذهبي، حانات، مطاعم، سينما مسرح، ثمّ أنّ الإشارة للكاتبين تقطع العلاقة بين الرواية الكلاسيكية ذات الخط الواحد؛ السرد المتقدّم إلى الأمام، فالبطل هنا شخصية سريعة الحركة رغم مكوثها في الجنّة، فالهدف من خلقها تقديم نصّ أدبي ورؤى تؤدي إلى طرح أسئلة تخص الكتابة الإبداعية، أكثر من رصدها كشخصية حقيقية تتحرك في فضاء مؤثث، تختزلُ مسار حياتها مثلاً إذْ قالت "حتّى طفولتي هربتُ منها وقفزت إلى الشباب مباشرة"... "كبرتُ من دون أن أعرف كيف يتصرّف الكبار".

يظهر في الكتابات الأدبية تماس مع الفنون السمعية أحياناً، بقصد أو عن غير قصد، فالإيقاعات الموسيقية الرنّانة على أذن الأديب في يومياته، لا تفتأ أنْ تنتقلَ في شكل ألفاظ إلى نصوصه، يحاول الإتيان بالأنغام من الوَتر إلى السطر، لا سيما إذا كانتِ الكلمات تخصّ قضيّة تهمّ المطرب والأديب، إنّ الجنّة لا تتسع إلّا للجمال، أجدُني الآن أمام مقطع من أغنية مارسيل خليفة "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي"... وفي النّص جاء "كنتُ وما زلتُ جائعًا إلى طعام أمّي. كنتُ أعشق طعام أمّي ومطبخها الأصفر الجميل".

تنجح الرواية وتصلُ إلى بعيد عندما تتخلّى عن راويها، عندما يتعاطف المتلقي مع شخصيّة مظلومة فيتألم لألمها ويُكشّر في وجه أخرى ظالمة فيكِنُّ لها كتلة من الكره تظلّ بصدره كلّما ذُكرت في نقاش، فهو لا يكره القيّم في الخيال وإنّما يكره قيمة الظّلم الممارس بين البشر الموصوف بعبارة  قالها عوضاً عنه الراوي، وهُنا تصلُ الشخصيّة إلى قناعة من امتداد القراءة أنّ التعبير من زاوية واحدة مُمل وقاتل، وأنّ الغوص في متاعب الناس وهمومهم أفضل من الراحة الدائمة في الجنّة، فتقول "يجبُ أنْ أكونَ شخصية أكثر بؤساً وتعلّقاً بالأشياء والأمور".

قدّمت لنا الكاتبة دراسة نقدية في نصٍّ روائيٍّ، خطوَتها صائبة ومختلفة عموماً، لعلّها رأتْ عزوف قُراء الرواية عن تتبع أثرها في النّقد، أو قُل عزوف النّقاد أنفسهم عن عملهم إذا نظرنا إلى كمّ الروايات على الرفوف مقارنة بالكُتب النقدية، سارتْ معنا الشخصيّة تراقب أمزجتنا من جنّتها التّي هي مرتاحة فيها، ونحنُ نكاد نتعصّب من عدم وجود شُخوص وأحداث اعتدنا على مشاهدتها، إذْ تفاجِئنا في منتصف المتن قائلة "هذه الرواية ليست رواية ممتلئة ولا قصّة مكتملة. هذه الرواية ككلّ رواية. تحتاج  إلى الصَنعة  والتفكير والسبك والحبك والنّسج وإحكام الوضع".

ولعلّ عيباً حلّ بالحوار، حينما انعزل في صفحات، فيبدو النّص حينئذ كمسرحية تزيد من ثقل تركيز المتلقي، ولعلّها انتبهت إلى فقدانه متأخّرة فتحاشت التشتيت، فمن الأحرى أن يُوزّع على النّص ليدفع بكل فكرة رويداً إلى الأمام في انسجام. هذا لا يعني أنّ الغموض طغى على النّص، كلّا.

لقد بقينا مسجونين بين دفّات الرواية، كما ستعيش الشخصية مسجونة في جنّتها، كنّا نأمل الدخول إلى الرواية حتّى وجدنا أنفسنا في نهايتها مطرودين، ألّا يستدعي هذا قراءات متأنيّة؟.

"الجنّة أجمل من بعيد" إحدى روائع الأدب المعاصر، طرحٌ مختلف وبأسلوبٍ مختلف، وهي جنّة للمغامرين نارٌ للخوّافين.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم