الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"سيدة ستراسبورغ" لرانيا محيو الخليلي: استدراك الذات قبل فوات الأوان

المصدر: "النهار"
غلاف الرواية.
غلاف الرواية.
A+ A-
 
حامد أحمد الشريف
 
"سيدة ستراسبورغ"، رواية لبنانية صادرة عن شركة دار مكتبة المعارف ـ ناشرون، للكاتبة اللبنانية رانيا محيو الخليلي. سأبدأ حديثي عن هذا العمل الجميل من عتبته: "سيدة ستراسبورغ"، وكنت قد شعرت أثناء القراءة، أنّ الكاتبة لم توفَّق في اختياره بسبب الدور الثانوي جدًّا الذي أسند إلى السيدة التي عُرفت بهذا اللقب، والتي كانت تهيم على وجهها في ساحة مدينة ستراسبورغ الفرنسية محاولة تلقّفَ أيِّ لبناني لسؤاله عن حبيبها الضائع منذ عقود من الزمن؛ بينما كانت البطلة الحقيقيّة التي يفترض اقتران اسمها بهذا العنوان، تقيم في مدينة بيروت بلبنان، وكانت زياراتها إلى تلك المدينة الفرنسية الهادئة، غير منتظمة، وتأتي على فترات متباعدة.
 
ولكن، عندما وصلْتُ إلى النهاية وتشرّبت الحكاية، لم أجد عنوانًا أفضل منه يصلح لهذا العمل الإبداعي! ففكرة الرواية قائمة على مقارنة بين السيدة الفرنسية ليليا، التي أفقَدَها هروبُ حبيبها عقلَها، وبطلة العمل حنان التي كان لها قصة طويلة مع الحب، وما ولده فيها من مشاعر متضاربة يصعب فهمها وتفسيرها، ما جعلها تقف على النقيض تمامًا من السيدة ليليا. فالسيدة حنان لم تستطع فهم ما يجيش في صدرها، أو أنّها فهمت لكنّها كانت أجبن من اتخاذ قرارها والتماهي مع مشاعرها؛ ما يشي بأن البطولة الحقيقية في هذا العمل أسندت إلى العاطفة التي تسيّر هاتين السيدتين، اللتين يُعَدّ وجودهما تمهيدًا للمفارقة التي ستنتهي بها هذه الملحمة الدرامية النفسية، بغضّ النظر عن المساحة السرديّة التي احتلّتها كل منهما. وبذلك فإنّ "سيدة ستراسبوغ" تمثّل كل سيدة في هذا العالم لا تحسن اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، وتتمادى في ظلمها لنفسها، بخضوعها لسلطة الذكر بذرائع واهية، أو بِرَهْن نفسها لعاطفتها بالمطلق، وهلاكها في كلتا الحالتين؛ ما يؤكّد قيمة العنوان وتجسيده المغزى الحقيقي للرواية.
 
يظهر على غلاف الرواية ـ الذي للأسف لم يُذكَر مصمّمه ـ مَبانٍ محيطة بالساحة، وبارزة بدقة متناهية، مقارنة بصورة الأشخاص الموجودين في الساحة نفسها، والذين ظهروا بهيئة ضبابيّة غير واضحة المعالم؛ وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنّ الجمادات المحيطة بنا قد تكون أحيانًا أكثر حضورًا وأهمية منّا نحن بني البشر، عندما نختار أن نكون على الهامش، ونعيش الفوضى الشعوريّة بكل تجلّياتها؛ ولعلّ ذلك ما يميِّز إنسان المدينة عن أهل القرى، فهو غالبًا ما ينكفئ على نفسه، ولا تربطه أيّ وشيجة بالآخرين، على عكس أبناء القرية الذين يرتبطون بمحيطهم البشري ارتباطًا وثيقًا؛ لعمري هذا مغزى عميق، لا أظنّه أتى اعتباطًا، وقد أشارت إليه الكاتبة بالفعل في معرض حديثها عن سكّان المدينة، حيث كانت تتعجّب من اهتماماتهم العشوائيّة، وعدم مبالاتهم بما يجري من حولهم، وسطحيّتهم، وسذاجة نظرتهم أو تقييمهم للأشياء، مقارنة بالصراع الكبير الذي كانت تعيشه البطلة، ويصحبها في حلّها وترحالها، من دون أن يشعر به حتى أقرب المقربّين منها، بدليل أنّ ابن خالتها زياد وزوجته راوية لم يتبّصرا علّتها إلّا في الجزء الأخير من الرواية، بعدما كادت تهلك بِصَمْتها القاتل.
 
 
تُعَدّ هذه الحكاية رومانسيّة بامتياز، وكما تعلمون، إنّ هذا التصنيف قد يكون جائرًا أحيانًا ويقلّل من قيمة العمل، وربّما يصرف كثيرين عن اقتنائه، في ظلّ ما يشاع عن الأعمال الرومانسيّة العربيّة من أنّها غالبًا ما تكون مبتذلة، لا تراعي القيم والأخلاق، وفيها مبالغات عاطفيّة يصعب قبولها وتصديقها، أو أنّها مكرّرة ومستنسخة، ما يبرّر العزوف عن قراءتها والتقليل من شأنها. ولكنّ الحكاية هنا مختلفة تمامًا، فالكاتبة أخذت هذه العواطف وأعادتها لأصلها ومنبعها الحقيقي، أو لنقل، عرّتها من كل الظواهر السطحيّة المسيئة إليها، ووظّفتها في حكاية اجتماعيّة عميقة جدًّا تركت آثارها في نفس بطلتنا، فأدخلتها في صراعات هائلة وقاتلة، صاحبتها من لحظة دخولنا معها في هذا المعترك السردي، مجبرين، بعد أن أخضعتنا لقوّة السرد وديناميكيّته وتشويقه غير المصطنع، بما حواه من مفاجآت روائيّة تواكب الأحداث، ودهشة تنهي كلّ مشهد من المشاهد، فتأخذ بتلابيب عقلك وجوارحك قسرًا، وأنت تبحث بلا هوادة عن الحقيقة المشوِّقة والغائبة.
 
ويستمرّ التصاقنا بالكتاب، حتى خروجنا منه مبهورين بالنهاية! يخيّل إليّ ـ ولعلّي لا أكون مبالغًا في ذلك ـ أنّ النهاية هي التي صنعت هذا العمل، وكل ما جاء قبلها كان القصد منه الوصول إليها وتبريرها. فالكاتبة استطاعت، وبحِرَفيّة عالية، الدخول إلى الأعماق النفسيّة لكلّ أبطال هذا العمل، بِغَضّ النظر عن المساحة السردية الممنوحة لكل منهم. كما وأظنّها أبدعت في مناقشة هذه العواطف المتناقضة، وتصويرها بواقعيّة مدهشة، وربطها بالأحداث. وجاءت بعض تعليقاتها وشروحاتها غاية في الروعة، فهي تجعلك تغوص في النفس البشريّة العجيبة، وتبتعد عن المظاهر السطحيّة التي يصنعها الحدث. ولعلّي أستغلّ هذه المناسبة للتأكيد على أنّ الأفكار قد تتشابه، ولكنّ طريقة تناولنا لها والزاوية التي ننظر من خلالها إلى المشاهد، هي التي ستخلق قيمتها الحقيقيّة؛ فالكاتبة وُفّقت تمامًا في البعد عن المظاهر المبتذلة لحالات العشق والغرام، وسرد مقطوعات من الغزل الممجوج، أو وصف المشاهد المحمومة التي تجمع الحبيبين، واللعب على وتر الغريزة؛ مقرّرة ترك كل ذلك الهراء، والاكتفاء بالغوص في أعماق النفس البشريّة، وتصوير هذه الحالة من الهيام المتقلّب والمتأرجح بين القبول والرفض، والإقبال والإدبار، والجسارة والخوف، بدقّة متناهية، مع بيان أسباب هذه التجاذبات النفسيّة، وتجلّياتها، ومآلاتها، وما يعقبها من صراعات عنيفة توشك أن تقضي على صاحبها، ثمّ جَعْلها محورًا لهذا العمل وبطله الأوحد، لتأتي النهاية المفتوحة، وتُبقينا متعلّقين بالعمل، نجتهد كثيرًا في توقُّع نهاية هذه السيدة، وكل السيّدات اللواتي ينحون نحوها.
 
كان بودّي وضع ملخّص لهذه الحكاية، ولكن، أشعر بأنّ هذا العمل، كباقي الأعمال الإبداعيّة، من المعيب تلخيصه، أو الحديث عن مفاصله المتنامية والمرتبطة كلّيًّا بالمغازي العميقة للعمل. فهو من الأعمال التي ينبغي قراءة كل حرف من أحرفها؛ وذكر شيء من تفاصيله فيه ظلم للقارئ، وتقليل من متعة القراءة. ولكنّني، مجبرًا، سأتوقّف عند بعض السرديات الإبداعيّة، من ذلك -بالطبع- تطرّق الكاتبة إلى حالة الغيبوبة المرضيّة التي قد يصاب بها أحدنا، والاعتقاد السائد بأنّ الإنسان ينسلخ خلالها كلّيًّا عن محيطه البشري، ويفقد الإدراك تمامًا؛ بينما كان للكاتبة رأي آخر، وهو أنّ الإنسان في حالة كهذه ينتقل إلى حياة البرزخ المؤقّتة، ويلتقي فيها بأحباب فقدهم منذ زمن ويعيشون هناك؛ كان وصفها لهذه الحالة دقيقًا، صوّرت السعادة الحقيقيّة التي قد يعيشها الإنسان إن تسنّى له ذلك، وهو ما جعل حنان ترفض بشدّة الخروج منها، خشية فقدان من أحبّت مرة أخرى. وهنا لا بدّ من القول: إنّ هذا المشهد، فوق أنّه خيالي محض ولا أساس له في الواقع - ولا أعلم إن كان للطبّ في الوقت الحالي رأي فيه - إلّا أنّه كان مقنعًا، وجميلًا، وإبداعيًّا، ولا يُخِلُّ بواقعيّة الأحداث؛ كما كان محوريًّا في هذا العمل، فقد انطلقت منه الحكاية، وانتهت على أعتابه.
 
في هذا العمل الجميل، كانت الحوارات في مجملها قليلة جدًّا، بالإضافة إلى أنّها مختزَلة ومكثّفة ومتناثرة. مع ذلك، أظنّها أدّت الغرض منها باقتدار، وأعلت من قيمة المشاهد وقيمة العمل ككل، عندما لم تغفَل عن زرع الحكمة بين ثناياها، وتضمُّنها العبارات التي ترسخ عادة في ذهن المتلقّي، من ذلك قولها في الصفحة 272: "بين الموت والموت اكتشفت حكمة اليقظة"، وتعني بذلك موت مشاعرها - وهي الميتة الأولى -، ودخولها في غيبوبة - وهي الميتة الثانية -. كذلك قولها في الصفحة 95: "المرأة مهما بلغت من قوّة واستقلاليّة تبقى بحاجة لسلطة الرجل المحب الذي يسعى جاهدًا للحفاظ على حبيبته"... ومن ذلك أيضًا قولها في الصفحة 114: "أبناء الوطن يصبحون هم الوطن في الغربة"... وهذا بالطبع غيض من فيض، فالرواية مليئة بمثل هذه العبارات الجذلة التي تؤكّد عمق الطرح ومغازيه الجميلة. هذا الحوار على قلّته ترك مساحة كبيرة من التفكير لدى القارئ الواعي، لاستيضاح العمق الجميل الذي ينبئ به هذا المشهد أو ذاك. ولعلّ الكاتبة استخدمت - عوضًا عن ذلك - السرد الوصفي، الذي تصدى له الراوي العليم في مجمل العمل، وإن تركه في بعض المواقف في يد بطلتنا حنان، أو في أيدي باقي الأبطال، على استحياء. ورغم أنّه كان طويلًا في بعض المواقف، ويذهب باتّجاه التبريرات والتوضيحات التي قد لا تحتاجها الأعمال الروائيّة الجيدة، وتتسبّب في كسل القارئ وتشتُّته ذهنيًّا، وانصرافه عن العمل، إلّا أنّه، وفي كثير من المواضع، كان جميلًا، وموظَّفًا بطريقة جيّدة، ما يؤكّد أنّه ليس ثمّة قوانين صارمة في الأعمال الإبداعيّة، فكسرها مقبول عندما يكون المبدع ممسكًا بأدواته جيّدًا، وهو ما تحقّق - في ظنّي - خلال هذا العمل الذي يمتدّ إلى ثلاثمائة صفحة من القطع الصغير، والذي فيه كَسْر لكثير من الثوابت الروائيّة، من ضمنها تكرار ذكر الأسماء في المشهد الواحد، وغياب الصور البلاغيّة والشاعريّة، إلى حدّ ما، والأسلوب الكتابي البسيط.
 
من الأشياء الجميلة التي استوقفتني، حوار بطلتنا حنان مع المحامية (ص44)، لِما فيه من بُعد نفسيّ عميق، رغم واقعيّته الإبداعيّة، فقد صوّر الحالة التي تكون عليها النساء عندما تتحكّم فيهنّ تركيبتهنّ الفسيولوجيّة، وتؤطّر تصرّفاتهن غرائزهن الأنثويّة، مهما كانت دراستهن ومكانتهن العلميّة، وهو ما ظهر في عبارتها الأخيرة التي حاولت من خلالها الانتصار لنفسها، عندما لم يعجبها تعرّيها أمام المحامية وفضحها لأسرار غرفة نومها، فقالت لها قبل خروجها، بمكر ظاهر: "أعتقد أنّ كثيرات يفتقدن هذا العشق من أزواجهن. لا شكّ بأنّني محظوظة ولم أكن أعلم"!
 
كانت تحاول التباهي أمام المحامية التي كانت - في ما يبدو - تفتقر لمثل هذا العلاقة الحميمة مع زوجها. من ذلك أيضًا الثنائيّات الجميلة التي تعمّق الإحساس بالمواقف، وقد ظهر ذلك بوضوح في أكثر من موضع، منها المشهد الرائع الذي عاشته مع مروان المتلهّف عليها، والمتفاني في خدمتها، والساعي بحقّ للتقرّب منها بأيّ طريقة كانت، عندما استضافها في قصره؛ والمشهد المؤلم الذي أعقبه، وكان فيه زوجها عامر على النقيض من ذلك تمامًا، إذ بدا أنّه مولع باضطهادها وتحقيرها والنيل منها. ولعلّي أُقرّ هنا بأنّ الكاتبة نجحت تمامًا، من خلال هذه الثنائيّات، في إيصال معانيها العميقة، والتشديد على تأثيرها في نفس القارئ.
 
من المواقف التي نجحت كاتبتنا أيضًا في صياغتها بالعمق النفسي الذي تستحقّه، هو ردّة فعل ليليا التي هربت من حنان عندما أتتها مهرولة تريد إبلاغها بالخبر الذي تبحث عنه، وكادت تفقد عقلها دون الوصول إليه. ظهر من هذا المشهد الإبداعيّ أنّ ليليا لم تكن جادّة في الحصول على إجابة السؤال الذي أرّقها، وهربت منها حتى لا تُسمعها الحقيقة التي لا تريدها. بالضبط كما يحدث معنا عندما نهرب من الحقيقة التي لا تتوافق مع أهوائنا، ونحن نبحث عنها.
 
لعلّي في نهاية الأمر أقرّ بأنّ الرواية بدت محبوكة ومترابطة، وتخلو من أي ترهّلات واضحة؛ ولم أجد فيها ما يكتنف بعض الروايات العربيّة من تفاوت في سرعة أحداثها، عندما نجدها بطيئة جدًّا في بدايتها وفي غاية السرعة عند اقترابنا من النهاية، وكأنّ الكاتب قد سئم الكتابة ويريد التخلّص من قلمه بسرعة؛ فسيرورة الأحداث في هذه الرواية بقيت متّزنة السرعة، ومرتبطة بالأحداث بالصورة المثاليّة المطلوبة للوصول إلى النهاية الإبداعيّة. وكان غوصها في النفس البشريّة بطريقة جميلة، قد حقّق ما نسمّيه في العرف الروائي "المنطقة المعلّقة بين الواقع والخيال"، وهي المنطقة التي لا نجاح لأيّ عمل بدون أخذ الوقائع السرديّة إليها. فالكاتبة نجحت بشكل كبير في نقل أبطالها إلى هذه المنطقة، وعودتهم مرّة أخرى إلى الواقع، وصعودهم أحيانًا نحو الخيال المحض. ظهر ذلك بوضوح في الاضطرابات النفسيّة التي عاشتها حنان، وانعكست على حياتها الأُسريّة، وما دار من سجالات كبيرة وصراعات وتأزّمات عاشتها وهي ترقد على السرير الأبيض، وما تخلّلها من قرارات متردّدة ومتأخّرة، أوقعتها في إشكاليّات كبيرة، كاد أحدها أن يقضي عليها ويتسبّب في موتها. وأظنّ أنّ هذا ما كانت ترمي إليه الكاتبة، إذ إنّها قالتها صراحة عند إهدائها العمل - من البداية - إلى شريحة محدّدة من النساء، اللواتي ذكرتهنّ في قولها: "إلى كل امرأة غفلت عن ذاتها لسنوات ثمّ عادت واستدركتها قبل فوات الأوان"...
 
لعلّي أختم بتلك المقولة التي سمعتها من أستاذي الدكتور عمر فضل الله في إحدى الأمسيات، قال حينها بأنّ الفضاء الثقافي العربي يحوي آلاف الروايات، ولكن، قلّة قليلة منها هي ما يستحق الوقوف عنده، والتحدّث عنه. وها أنا ذا قد فعلت...
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم