"فتى الينابيع" محمّد البندر: "أما في موطني رجلٌ شريفٌ يعيد لعزّة الأوطان مجدًا"؟

ارتدى ثوب طفولته ويمّم مسرعًا ناحية شواطئ بلاده التي لم يَسَعْ فضاؤها- على رحابته- انبساط جناحيه؛ تفتّحت طفولته في "زبقين" قضاء صور حيث نما وأزهر علمًا، ومعرفة، وثقافة واسعة، وحضورًا فاعلًا؛ إعلاميّ لبنانيّ، تمرّس في الصحافة مُعِدًّا ومقدّمًا العديد من البرامج التلفزيونيّة الثقافيّة والسياسيّة على حدٍّ سواء، في لبنان وخارجه، وهو حاليًّا مقيم في بغداد حيث يعمل مذيعًا للأخبار السياسيّة في قناة اي نيوز العراقيّة. تميّزبحضورها لثقافيّ والاجتماعيّ البارز، فهو، إضافة إلى كونه رئيس مركز عاملة للدراسات والإعلام والتوثيق، ورئيس تحرير موقع باباراتزي الإخباري، ورئيس جمعيّة لؤلؤة الجنوب الثقافيّة، عضو في الحركة الثقافيّة في لبنان، وفي اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق، واتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، وعضو الاتحاد العامّ للأدباء والكتّاب العراقيّين. كما نظّم العديد من الندوات والأمسيات والمؤتمرات. منها مؤتمر "جبل عامل مهد المسيح".

باحثٌ نهم، وثائر شبابيّ مدرك واقع بلاده ومحيطه، ورافض له؛ وقد سعى جاهدًا، من موقعه الثقافي، لتغيير هذا الواقع، والمضيّ به نحو الأفضل، وإن قادته ثورته يومًا للتصريح بالقول إنّ "الديكتاتوريّة في مجتمعاتنا الشرقيّة هي الحكم الناجع للشعوب"، ذلك أنّ "الأسرة العربيّة هي مؤسّسة قمعيّة ديكتاتوريّة، قائمة على سلطة أبويّة ذكوريّة غير قابلة للجدال أو النقاش..."، وما قوله هذا إلّا صرخة غضب تعكس الصراع المرير الذي يعيشه شبابنا جرّاء الموروثات الاجتماعيّة الضيّقة الأفق، والتي تقيّد حرّيّة أفكارهم وتقف حاجزًا أمام انطلاقهم الحر.

إنّه الشاعرمحمّد البندر، الذي توّج مسيرته بعدد من الدواوين الشعريّة، آخرها "فتى الينابيع" الصادر عن دار ناريمان للنشر والطباعة والتوزيع، 2022، وقد أطلقه خلال معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 63، الذي جرى بين 3 و 13 آذار من العام الحالي.

 
 
زيّنت غلاف الديوان لوحة ملوّنة للفنّان التشكيلي  ياسر الديراني، ظهرت في وسطها لجهة الشمال ملامح وجه الشاعر، بالأبيض والأسود، وكأنّه يطلّ من بعيد على عالمه الذي هجره تاركًا فيه أجمل الذكريات. كما أضاف إلى الديوان عددًا غير قليل من رسومات الديراني بالأبيض والأسود، جعلها مفاصل واستراحات بين القصيدة والأخرى.

ما إن ندخل عالم بندر الشعري حتّى نشعر أنّنا ذاك الطفل الذي يشتاق الهرب إلى مسارح الطفولة، فهو يرسم لنا بالكلمات لوحة تتضمّن مسرح طفولته، حيث النبع والنهر والمياه والضفاف، والحقول، وزهرة الدفلى، والورد والشقائق، والقطيع، والريح، والفضاء، والكرْم والعنقود، والغياب والضياء... يدوّن ذكرياته الطفوليّة في لوحات مشهديّة تنقل لنا قطراتِ مياه النهر المتناثرة على الوجوه، وحقولَ الدخان بعد الحصاد، وعَدْوَهُ بين السنابل... يضعنا بين أفراد أسرته المطرّزة حياتها على بساط الطبيعة، حيث ينسج كلّ فرد منهم سيرته؛ أخبار تنقلنا معه إلى حضن أمّه، وحكايا جدّته، وداليات والده، ومحراث جدّه وحنطته، وأهازيج أترابه:

 "ونحن ندور حول الحقلِ نمنحه

أغانينا ويمنحنا المدى طربًا

وننظر في خوابي الأمس نشربُ صوتَ

ماضينا...

وما زالت دروبُ الحيّ تسألُ عن خطى

الماضين إن عادت تلاقينا" (ص 15-16)

وللمرأة في قصيدته حضور طاغٍ:

"فأنتِ قصيدتي

ما دمتُ حيًّا

وأنتِ بعمريَ الباقي أنايَ" (ص 43)

تعكس قصائده صورة الحبيب المخلص، الوفيّ لامرأته، لا الرجل اللعوب الذي يسعى خلف المغامرات، فهو يتحدّث في كامل الديوان عن امرأة بعينها، تشكّل "نقطة في فواصله"، "هي شرفةٌ للّوزِ في ضحكاتِها/ هامت فراشاتُ الندى بمناحلِ" (ص 22)، يستعيد من خلالها صورة عالمه البعيد الجميل الذي تحوّل إلى ذكرى جارحة بسبب بُعده عنه، فكان موطنه علّة حزنه:

"أصابعي مثقوبة كالناي ينفخ روحه لقوافلِ...

خاب الرجاء بموطنٍ هو قاتلي" (ص 23)

كما يمكننا أن نلمسَ طبيعة فكره المنفتح، إذ نقع على صور مستقاة من مختلف الكتب السماويّة، فجبريل وطور موسى حاضران إلى جانب الهلال وإكليل الشوك والكنائس... تتعاون جميعها على خطّ ملامح فكره وإحساسه.

وفي وقفة تأمُّليّة عميقة مع الخالق، يناديه في "دالية الوجود"، يسأله أن يعيرَه وجهه، ليتحوّل إلهًا بدوره، يسكب لنا في كؤوسٍ عصارة فكره وروحه وإحساسه، "ليشربها المريد بلا شفاه"، وكأنّه ماءُ الحياة وروحٌ صافية تنسكب في العقول وتحوّلها إلى حالة السكر التي يعيشها، سكرٌ من نوع آخر، حيث يرتفع نحو الله الحقّ، بعيدًا عن آلهة الأرض التي لا تُحصى، والتي كفر بها: "آلهة المناصب والدواهي"، والمظاهر الخادعة المرسومة على الجباه، والقامات المتاجرة بالدين، محوّلة أماكن العبادة إلى ملاهٍ، ومتحوّلة إلى ذئاب:

"فإن كان الذئاب

رعاة قوم

فليس يهمّهم قلق الشياه" (ص 33)

إنّه صوت كلّ من يعاني من ظلم الواقع وجوره، ينقل شكوى الناس بأسلوبٍ شعري بسيط يلامس القلب:

"رفقًا بنصلٍ

تدانى منكَ يا عنقي

فكن طريًّا على السكّين كالحبق" (ص 39)

تكرّر في الديوان ذكر المرآة والمرايا، وكأنّه خلاصة وقفة الشاعر مع ذاته أمام مرآة تاريخه من الطفولة حتى اللحظة الشعريّة: "فألمحُ في مراياها جبيني/ يضيء بعتمة المنفى فيندى"، من قصيدة "رقصة التأويل" (ص 93) التي يعرّفنا فيها بنفسه وبتاريخه وأهله، فهو حلّاجٌ في الشعر، وعبقرُ الشعراء، ونبيٌّ في طور موسى، ونخلةٌ ثمارها شهد، وأمانٌ لمن يليق به الأمان، وجلّادٌ لمن يتحدّاه؛ هو باختصار جنوبيّ يعتز بانتمائه، وبأهله الأبطال:

"وأهلي إن تمرّد في حماهم / عدوٌّ أصبحوا في الأرض مردا" (ص 95)

"لا المجدُ غايتَهم/ بل كان خادمَهم/ والنصرُ مهنتُهم في أرضهم عبَرا" (ص 112)

ويرسلها في الختام صرخة مدوّية تعبّر عن وجع الشعب:

"أما في موطني رجلٌ شريفٌ/ يعيد لعزّة الأوطان مجدا"؟

محمّد البندر الذي أخذ إجازة من عمله، وعاد إلى وطنه على جناح الشوق وكلّه أملٌ بقيامة حقيقيّة للوطن، هل يتحقّق قريبًا حلمه؟!