الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

غادة السمروط تُعلنُها مدوّيةً من منظور "ديكارتي": أنا أُمارسُ فعلَ العبورِ بالكلمة، إذًا أنا موجودةٌ... أنا وما خطَّ القلمُ إلى خلود!

المصدر: "النهار"
الراحلة غادة السمروط في صورة تذكاريّة.
الراحلة غادة السمروط في صورة تذكاريّة.
A+ A-

تحت عنوان "شهادات أدبيّة في الفقيدة"، أقام المنتدى الثقافي في الضنّية والهيئات الثقافية والجامعية في الشمال حفلاً تأبينياً لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الأديبة والناقدة والأستاذة الجامعية الدكتورة غادة السمروط، وذلك في قاعة اتحاد بلديات الضنية في بخعون، وبرعاية الاتحاد ومشاركة المديرية العامة للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة، وإدارة كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانية- الفرع الثالث، والتجمع الوطنيّ للثقافة والبيئة والتراث.

 

ومن ضمن الشهادات في الراحلة، ألقى رئيس الاتحاد الفلسفي العربي، الدكتور مصطفى الحلوة، كلمة تأبينيّة قيّمة، تناولت مقاربة الدكتورة غادة السمروط للآداب ونقدها من خلال تحليل فلسفيّ لأعمال الفقيدة التي واكبها الحلوة، مستنتجاً أنّ هذه الأديبة المتعدّدة تخلّدُ وجودَها الكلمة. وإذ يستوحي مصطفى الحلوة نظرته من المبدأ الديكارتيّ "أنا أفكّر، إذاً أنا موجود"، جاءت كلمته كالآتي:

أبِّنوها ما أسعفتكُمُ الكلمات، فهي تستحقُّ التأبينَ أضعافًا مُضاعفة. ولكن اعذروني، فغادة لم تمُتْ عندي، فالمبدعون مُخلَّدون، تُكتَبُ لهم ولادةٌ  مُتجدِّدة، كلما لَهَجْنا بأسمائهم، أو استعدنا بعضًا من سِيَرِهم ومآثرهم والفِعال!

عرفتُ غادة "حِلَّةً ونسَبًا"، إذْ غُصتُ، مُفكِّكًا ومُحلِّلًا، على ثلاثةٍ من أعمالها، والرابعُ بين يديَّ أُقاربُه. وهو مُبصِرٌ النورَ، عمّا قريب. هي أعمالٌ أدبيةٌ إبداعية، ينتظمها مشروعٌ فكريّ، لم تجهرْ به غادة، بل تكشَّف لي جليًّا، وهو يتمثَّلُ في العبور بالكلمة إلى ذاتها، ذات غادة، وعبرَ ذاتها إلى الذات المتعاليةالمُطلقة ! وقد كان لحالة العبور إلى الذات، والاستغراق فيها، أن تُخرِجَ الكاتبةَ من حُطامِ الجسد وحسِّ البصر، إلى منارات البصيرة. كما كان لها تجاوزُ محدوديتها الجسمانية والمكانية إلى اللانهائي. فهي، والقولُ لها، " أتت من لاشيء لتكون كلَّ شيء!"

عَبْرَ هذا المشروع الفذّ، كان لغادة أن تتعرّفَ إلى جوهرِ الحقيقةِ دون ظلالها! كأننا بها تأخذنا إلى "كهف أفلاطون"، لِتُسِرَّ في آذاننا: شتَّان شتَّان بين الجوهرِ والعَرَض!

وإذْ أوغلت غادة في حقائق الوجود والحياة، فقد خلعت على الكتابة بُعدًا كونيًّا. وبذا غدا حبرُها فكرًا "يرنو إلى شعاع شمسٍ/ وصوتًا غادرَ الذات ليكون في كلّ ذات/ في كلّ حبّة تُراب!" 

لقد قُدِّر لغادة أن تعبُر إلى اللانهايات، مُخرِجةً اللغةَ من حيِّز الأداة إلى مجال الماهية، إدراكًا منها أنّ "اللغة هي مقطنُ الوجود وحقيقتُه".بل هي"بيتُ الوجود ومخبأُ ميلاد الإنسان!"، حسبما يذهب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت.

كان لنصوص غادة، في حركيّتها، أن تتمفصلَ حول زمنٍ، مثلّث الأبعاد: ماضيًا وحاضرًا وآتيًا، احتوى ذاتَها، فإذا بها تُكثّفُه في بُعدٍ واحد، وتحتويه، علّه يُبلِّغُها ما ليس يَبلُغُهُ من نفسه الزمنُ!

لقد راودها الفكرُ الفلسفي عن نفسها، فإذا بها تروح إلى حفرٍ معرفيّ عميق، تبتغي ما يمكُثُ في الأرض، لا الزَبَدَ، الذي يذهبُ جُفاءً! هكذا، إلى متاهاتِ قلقٍ وجوديّ، أخذتها الكتابةُ، وقد عرَّشت فيها كَرْمَةٌ، من علامات استفهام وتعجُّب، حاولت عبثًا اقتلاعَها!

ولقد كان لفلسفة العرفان أن تترسَّخَ، في كتاباتها، حضورًا. فهي تُعاقرُ الكتابةَ حتى الثُمالة، حتى بلوغ حالة انتشاءٍ روحيّ، دونما شَطْح، مُستنفدةً كلَّ ما فيها، حتى الرمق الاخير! فعلى مشارفِ الموت، على مرمى أيامٍ منه معدودات، لم يَسَعْها التخلّي عن فعل الكتابة، ذلك أن العبورَ بالكلمة ووجودَها يتلازمان، من دون انفكاك!

لقد كانت الكلمة، بل العبورُ بها إلى الذات، كلَّ شيء، في مسارِها المعرفيّ، فراحت تتعبَّدُ لها، في هيكلها، وحروفُ الكلمات تسري فيها، تُشكّلها نسمةً، بحسبِ قولها، وتكتبُها عبورًا في الريح ! هكذا، بلُغَتِنا- نحن المشتغلين بالفلسفة- يصحُّ فيها القول:"غادة السمروط وجودٌ بالقوة en puissance))، شكّلتها الكتابةُ وجودًا بالفعل (en fait)".

وبعدُ.. لم يتوقَّف القلمُ من لدُنها، ففي الهزيع الأخير من عمرها، وهي تحت عبء المرض، جهدت، بالكتابة، في التخفيف من وجعها، وجع المرض ووجع أبنائها، البعيدين عنها، المنتشرين، في أربع جهات الأرض! وطفقت تُندّي جفافَ ما تبقّى لها من أيّام في ذمّة الزمن!

غادة لم تخشَ الموتَ، بل راحت تُفلسفُه، من منظور فعل الكتابة، فإذا هو "قصيدةٌ ترسُمُ الغروب"، غروبَ عمرها، الذي يُؤْذِنُ بأُفول!

من مقلبٍ آخر.. ولأنّ العبور بالكلمة، يؤشّرُ على حرية الكلمة، كان لغادة أن تُحرّرَ اللغة من قيودها الحديدية الآسِرَتِها، وأن "تُنظّفَها" من أدرانها، وما يشوبُها من عيوب وندوب!

لقد ذهبت غادة إلى الكتابة، في بُعدها المؤسطَر، مُحقّقةً رؤيةَ رولان بارت، قبل أن يحينَ زمنُها، حيث يقول:"ثمة ميتولوجيا للكتابة تنتظرنا"، لم تنتظر، وكان لها مساحةٌ من ريادة!

 رحِمكِ الله، غادة، وأنتِ، مع الأحياء، في جنّات النعيم. ولا يسعني ختامًا إلّا أن أستعيدَ ما عنونتُ به مقالي، يومَ رحيلِك: "وداعًا غادة السمروط، يا وجعَ الكتابةِ الإبداعية والأدبِ الفلسفي!"، وأُضيفُ، والألمُ يعتصرُ الفؤاد: "نفسي حزينةٌ حتى الموت!"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم