الرّوائية العُمانيّة هدى حمد: "معيار الكتابة لا يُرتهن بالجندر"

إن كان المجتمع يحاصر المرأة بالممنوع والـ"لا"، ترفض هدى حمد تصوّراته المنيعة، ولكن بدون إفراط ولا تفريط بتمثلات "النسوية". ترسم التجاوزات ضمن حدود الخيال، فحسبُها أنّ "الأشياء ليست في مكانها" (جائزة الإبداع العربي بالشارقة، وجائزة أفضل إصدار عماني- 2009). بطلاتها قد يلجأن لتكييف الواقع بالنسيان كما في "أسامينا"، وقد يساعد البوحُ "سندريلات في مسقط" في التصالح مع عتمات الذات. الأم في روايتها ليست القديسة ولا الملاك الّذي شاء المجتمع أن يعصمها عن كلّ المشاعر ما عدا الأمومة. 

تُعتبر هدى حمد من أمتع الحكّاءات لتفاصيل النّساء العربيّات بأسلوبها المنساب، غير المتكلف. نقلت الأدب إلى متن العالم الافتراضي من خلال تحويل رواياتها إلى نسخ سمعيّة "بودكاست"، وتناقش كتباً ومواضيع أدبية عبر قناتها الخاصة "ضدّ النّسيان" على يوتيوب. ولا يزال حلم تأسيس نادٍ للقراءة يراودها، لكن "حتى يكبروا العيال"!

تقارب قضايا النساء من خلال نسج عوالم نسائية عند ملتقى الفانتازيا والواقع. تجدُ في المجرّد من بواطن الرغبات والنوازع والمخاوف وأيضاً الهلوسات لبَّ المعنى، فـ"الكلمات أطول عمراً من الأشياء التي تمثّلها".

ماذا نقرأ في "نسوية" و"الأدب النسائي" لهدى حمد؟ بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، كان لـ"النهار" معها هذا الحديث.

 

- "ولذا فنحن نحكي، لنعود إلى بيوتنا خفيفات جداً. نصبح آنذاك كالريش، حالمات وسعيدات". هذا ما تقوله سندريلّات مسقط. غير أنّ الثّقل بحد ذاته يستحيل خفّة حين تكتبينه. هل الكتابة مثل البوح، فعل تقطير أم هي وشم؟

من الصعب تأطير الكتابة في تعريفات جامدة، فكل واحد منّا يملكُ المعنى الذي يخصه ويشبه تجربته.  ويتبدى لي أنّ الكتابة تتجلى وراء الدوافع الأولى والباكرة لنزوعنا إلى العزلة، لاختبائنا من الخيبات، تمكثُ الكتابة وراء التوهجُ الذي يقترحه الجمال والقبح... العزم والتهاوي الذي يعبر حياتنا، فالكلمات تجعلنا ننكشفُ في المرايا اللانهائية لأرواحنا، وعند تخلي الأشخاص والأشياء عنّا تنبعثُ كلّ المؤازرة الشفافة من الكتابة وعبرها.

الكتابة عمليّة أكثر تعقيداً ممّا تبدو. ليست مجرد هرولة عابرة للتخفف من الأعباء. بالنسبة لي كانت الكتابة باكرة كجرح، وكنتُ وما أزال أدينُ لها بكل توازناتي مع الحياة والعائلة، ويبدو أنّ مجرد التفكير بفقدانها يعني فقد أي أهمية في العيش.

 

- الكثير من الروائيين العالميّين أمثال ماركيز، هامينغواي، كامو واللامعين في العالم العربيّ مثل أمين معلوف، توفيق يوسف عوّاد وغيرهم، كانوا في الأصل صحافيّين.

كيف خدمت الصّحافة رؤية هدى حمد الروائية؟ وهل تضطلع الكتابة الصحفية بجزالة لغتك في الأدب؟

ما توفره الصحافة لي هو التمرين الدؤوب على الكتابة، ونفي خرافة انتظار الشياطين ولحظة الالهام المقدسة. رهنُ الكتابة بعامل الوقت والزمن الذي يجعلنا نجلسُ لننجز شيئاً ما في وقت محدد، وهذا أعظم ما وهبتني إياه الصحافة. إضافة إلى أمر لا يقل أهمية وهو التخلص من اللّغة بالغة الشعرية الثرثرة المجانية والحشو، فالصحافة تجعلك تذهب تماما إلى مقاصدك بأقل قدر من الكلمات. وقبل هذا وذاك جعلتني الصحافة على تماسٍ يومي مع الأخبار والأفكار المُحرضة- بطريقة أو بأخرى- لديناميكية السرد. أمّا السلبية الوحيدة التي كنتُ أخشى منها، فتكمن في مهابة الوقوع في فخ المباشرة والفجاجة، وعندما شعرتُ بإمكانية حصول ذلك حقاً في محرقة الصحافة اليومية، انتقلتُ إلى مجلة نزوى الثقافية لأحمي كتابتي الأدبية التي أراها الأبقى والأهم بالنسبة لي.

 

- أيّهما أكثر جرأة، أو بمعنى "خارج الصندوق": صحافية أم روائية في عُمان؟

أظن أنّ واحدا من أهم أسباب النمو السريع في معدل كتابة الرواية عربياً وليس عُمانيّاً وحسب، هو أنّك تستطيع عبر الألاعيب السردية والمخيلة الخصبة التي تتمتع بها الروايات أن تُمرّر كلّ ما لا تستطيع تمريره عبر الصحافة وعبر كتابة الآراء السياسية أو عبر الاستقراء التاريخي للمنطقة، ولذا باتت الرواية في تقبلها للأفكار والرسائل المبطنة وفسحة التأويل المُشرعة... باتت ملاذاً آمناً لكثيرين. إذ أنّ الصحفي في وطننا العربي غير محمي، بينما الروائي يتمكن من تمرير كل أفكاره ومواقفه عبر شخصيات وأماكن يتملص بسهولة من مسؤوليتها بمجرد أن يقول: "أيها القارئ لو وجدت أي تشابه بين شخصيات الرواية وبين الواقع"، فعليك أن تُكذب نفسك لأنّها من نسج خيال الكاتب.    

- في رواية "أسامينا" أزحتِ مُجدّداً هالة القُدسيّة التي تأسر الأمومة في الوطن العربيّ وفكفكتِ علاقة الأم مع ابنتها.وأطلقت تهاني في "ساندريلات مسقط" صرخة أمهات قد يمقتن أولادهن بسبب الأمومة المتطلّبة، ولعلها كانت الصوت النسائي الأقوى في خرق للمحظور الاجتماعي. ماذا تحتاج الأم في عُمان وفي الوطن العربيّ عموماً كي لا تجلدها الأمومة؟

أكثر ما يُرعبني ويصيبني بقشعريرة -بالمعنى الجمالي طبعا- عندما أقرأ رواية تجعل العادي والبسيط والمُسلم به قابلاً للخدش لإزاحة طبقة رقيقة ومزيفة أحياناً، وسأتذكر هنا ما قاله أورهان باموق: "أكتب لأنّني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلّا وأنا أغيّرها".

تحطيم قداسة الأمّ ليس لزعزعة صورتها الآمنة، وليس لبث كراهيتها، وإنّما لأنّ القداسة التي أحيطت بها منذ بدء الخليقة، لم تكن تجعلنا نرى الزوايا الأكثر عتمة وإظلاماً من كيانها.

يمكن أن يُصور الأب في الأدب بصور لا نهائية ولكن قلّما تُمس صورة الأمّ. كأنّنا نخافُ أن نفعل ذلك. كأنّه مُحرم علينا، رغم أنّ الواقع يُرينا نسخا شديدة البؤس من الأمهات.

يبقى أن أشير إلى أن الروايات غالباً لا تميل لتقديم الشخصيات السويّة، وإنّما تلك الشخصيات المركبة والمعقدة.

وأجدني أكثر ولعاً بما يُسمى بالواقعيّة النفسيّة، حيثُ تلك المآزق الصغيرة التي تحيط بالشخصيات تنمو على مهل لتنبئ عن عواصف قادمة.  

- لماذا تلجأ بطلاتك إلى كبسولات متخيلة، سواء في "ساندريلات مسقط" أو في لعبة النسيان في "أسامينا"؟ هل لأنّ المرأة بنظرك لا تزال عاجزة عن مواجهة المجتمع وتغيير الواقع؟

بقدر ما تبدو بطلاتي راغبات في التنصل من فخاخ الحياة، وبقدر ماهن جامحات، بقدر ما تنطوي ذواتهن على انكسارات مُركبة، تشبه العجز العام الذي نعبره في حياتنا الواقعية.

إيزابيل ليندي قالت ذات مرّة: "على مرّ السنين، اكتشفتُ أن كل القصص التي رويتها، وكل القصص التي سأرويها مرتبطة بي بشكل أو بآخر". ومن يدري، فربما ثمّة ما يتسربل من ذواتنا ونحن نحيكُ شخصياتنا. فبالنسبة لي شخصيّاً، لطالما كنتُ محمية بسبب مخيلتي، لطالما كنتُ أغلقُ عيني وأشفى من وهج خفي كلما تآكلت روحي من عذابات واقعية، ولا أدري إن كنتُ أقترحُ على بطلاتي حلولاً كانت يوماً ما تناسبني!

- تعتبرين أن "النسوية" كلمة مضجرة، بالرغم من انسحابها على الخيط الموضوعاتي لكتاباتك. هل تجدين أنّ النسوية حقّاً استُنزفت؟ وماذا ينقصها لأداء دورها المفترض في إنصاف المرأة؟

لا أميل لاختصار كتاباتي ضمن منهج واحد يُدعى "النسويّة" حتى وإن كنتُ معنية -بدأبٍ شديد-بالكتابة عن النساء وتحولاتهن النفسية والحياتية. المرأة الكاتبة، تمتلكُ حساسية عالية تجاه تفاصيلها الصغيرة. تنشغل أكثر بالتفاصيل المنسية والمتغافل عنها في حياة النساء، وفي علاقات الأمومة، فكل كاتب بطبيعة الحال ينطلقُ من خبراته الفردية، مما يعي ويعرف ويتماس بشكل يومي، وبالتالي تُقدم المرأة مقترحها الجمالي الخاص والفريد... فمعيار الكتابة لا يرتهنُ بالجندر. هنالك كتابة جيدة وكتابة رديئة، وبينهما مُشتبهات لا يمكن نكرانها أيضاً.

- تجربتك المتعدّدة تزاوج بين الصّحافة والنّقد الأدبيّ وأدب الأطفال وروايات حول مسائل شائكة في المجتمع العُمانيّ. ما هي الرسالة المشتركة التي تصوغينها عبر كلّ هذه الأنماط؟

أفتقدُ الشعور بالغاية. لا أملكُ إجابات مُحددة تجاه غاياتي. لكنني في آن أتشبثُ بالمغامرة صوب أشكال من القراءات والكتابات، أشعرُ بالتوهج إزاء أي مشروع جديد. كهذا كأني أمنح حياتي قبل كل شيء معنىً ما، ولستُ على يقينٍ من حدوث شيء أبعد من هذا.