الشَّاعر محمَّد حلمي الرِّيش... نورس التَّانكا العربيِّ في "مطرٌ خللَ شعاعِ شمسٍ"
04-12-2020 | 12:37
المصدر: "النهار"
مريم شهاب الإدريسي- شاعرة وناقدة من المغرب
شاعرٌ نورسيُّ الرُّوحِ بمدى سماءِ إبداعه اللَّازورديَّة، خارج السِّرب هي حروفُه الحرَّة تنضح من دواة عزلته الإبداعيَّة، بطقوس مخيَّلته الشَّاعرة، وبلمسات ريشته الَّتي ملك ناصيتها الَّتي تبذخ برسم ملامح للكلمات، ينسج بوحَهُ بشغف شِعريٍّ آسِرِ الجمال اللُّغوي وارف الظِّلال بحنينه لدفء قصيد باهظ البوح.
ديوانٌ تتوهَّج نصوصُه ذائقةً مترَفة بالخيال الجامح الغاوي وهي تتسلَّل بدهاءِ دلالاتِها لتندسَّ برشاقة هويناها لقارئٍ منتبه ببصيرته الحاذقة، وهي المتطلِّبة حنكةً قرائيَّة تذوقيَّة متمرِّسة برصيدَيْن؛ شعريٍّ ولغويٍّ مهمَّين، فهي تملك من اللُّغة ما يجعلها ذات بأْسٍ حانٍ يملك عليك ذائقتك بدهشته الَّتي تدفعك ناقدًا وقبله شاعرًا قارئًا بعينه المتذوِّقة للَّوحة الشِّعريَّة، يقظِ النُّهى إِلى محادثة النَّصِّ فمشاكسته ببَذْلك أَقصى ما في وسع دهشتك لإِعطائه ما يستحقُّ من قراءة متأَنيَّة.
كلُّ قصيدة هي نصٌّ ينطق إِبداعًا، وهو الَّذي يمنح مخيَّلتك خيالها الأَرحب وأَنت تمارس تأَمُّلك القرائيَّ الاستكشافيَّ بتمرِّس المشاكسة، فترسم بمخيَّلتك ما لا يرسم إِلَّا شعرًا بقلقٍ أَنيق واع، وبإِيقاعات نفسيَّة لغويَّة، فتكون لقراءَتك ملامح نصٍّ شعريٍّ تسكنك بدورك بأَلوان حبر ريشته المعتَّقة على إِيقاع سيمفونيٍّ للحروف بأَصواتها، وعزف ناي شجن دلالاتها، وقد باحتها ذائقة الشَّاعر فيه.
هو الشَّاعر الَّذي لا يصمت إِبداعًا بكلِّ نمط شعريٍّ، ولا تصمت شفاهُ أَنامله بوحًا ولو بحَّت من نزيف الكتابة إِيثارًا.
نصوص التَّانكا معتَّقة بمشاهدها اللُّغوية تمنحك كامل حرِّيَّتك ما دامت تملك من الجسارة ما يصالحك مع ذاتك النَّهمة للحنكة اللُّغويَّة، لتستشفَّ شروطه الإِبداعيَّة بعالمه الشِّعريِّ الموشوم بجدليَّة الضَّوء والظِّلِّ/ الإِغواء والتَّربُّص برؤاه وأَخيلته.
اللُّغة الشِّعريَّة بذي التَّانكا بملامحها العربيَّة تمتلك صفات تجعل القصيدة الواحدة منها تشي بانتشاء فرح طفوليِّ، وبشجن به من الأَنفة ما يلوح بعزِّة حبر وبهاء روح الشَّاعر.
إِنَّها تفاصيل ثقافة شعريَّة تمرَّست عليها قراءات الشَّاعر لنصوص التَّانكا الأَصلية ودُرْبته على ترجمة العديد منها، ما أَكسب دواتَه خبرة من اعتماد الشَّكل الخاص بالتَّانكا المكوَّن من خمسة أّسطر يكون الثَّالث فيهما هو الرَّابط ما بين الأَوَّلين والأَخيرين، من دون إِغفالٍ أَو تناسٍ لأَهميَّة علامات التَّرقيم وأَصوات الحروف ودلالاتها.
تانكا مضمَّخة حبرًا عربيًّا رصينًا بلغة مسوَّرة بعلوِّ الكلمة، وما سَما من المخيَّلة.
لغة شفيفة هي بوح الوتر على إِيقاع نشيدته ليبقى السُّؤال عن هاته النُّصوص الأَنيقة حدَّ الإِبداع المتفرِّد: كيف لهاته اللُّغة أَن أَلبسها الشَّاعر ثوب الغد، وأَغدق عليها من شجو نبضه الشِّعريِّ لتطلَّ على القرَّاء بكلِّ هذا الخيلاء وهي تصدُّ رياح التَّقليد، بل وتخترق ضبابه بكلِّ رزانة وثبات شعريٍّ؟! كيف لهذا الإِبداع الشِّعريِّ المتقن للمرَّة الشِّعر أَن جعل القصائد تضج بكلِّ هذا العنفوان اللُّغويِّ؟!
كلغة مختالة بشجنها وسردها تخطو خطوها الرَّشيق على إِيقاع السُّطور، وكلغة ملء حروفها ترتقي بعطر دواتها وتنأَى عمَّا سواها بتفرُّدها وتميُّزها كلغة يسكنها الياسمين مذ كان لها ذاكرة وسيرة بذكرى وتذكُّر؟
كلغة للشَّاعر فيها مآرب الدَّهشة والإِدهاش، وهي النَّدَّاهة إِليها؛ كلَّما شدَّتك إِليها فرَّتْ منك لترتقي معارجها، تبعد بكلِّ قواها عن انزلاقيَّة مباشرة للكلمة وللسَّطر وللقصيدة لتظلَّ متميِّزة متفرِّدة، وهي بشارة تجليِّاته الشِّعريَّة الشَّاعريَّة المذهلة.
عن جائحة "كورونا"؛ تفوَّق الشَّاعر الرِّيشة بوصفه الشَّديد الدِّقَّة، فكتب:
النَّهَارُ بَائِتُ اللَّيْلِ؛
كَأَنَّ الضَّوْءَ تَقَاعَدَ قَسْرًا،
وَكَأَنَّ الشُّعَاعَ عِقَابٌ-
كُلُّ شَيْءٍ جَمِيلٌ الْآنْ
إِلَّا الْإِنْسَانْ!
"النَّهار بائت اللَّيل"؛ سطر شعريٌّ ماسيٌّ متلأْلئٌ وضَّاءٌ ووضيءٌ بكثافة المعنى، ووصف لا يضاهيه رسم بالكلمات بنهايته كسرة وهي الحركة المنبسطة الأَماميَّة للدَّلالة على الخفض والإِخفاء، أَمَّا اللَّيل قد عرف بالسَّكينة والعتمة وذي الكسرة مرجعيَّتها نحويَّة بالإِضافة، أَمَّا دلاليًّا فنسبة النَّهار إِلى اللَّيل بظرف الحَجْر كان منه البائت ما بين الشُّعاع والضَّوء، هي حروف بانسياباتها تتجلَّى مشاهد بملامح لغويَّة، وأَمَّا السُّكون بالسَّطر ما قبل الأَخير بنهاية كلمة "الآنْ" دليل اشتغال حثيث على الكلمة من حيث الإِشارة للوضع الحالي من توقُّف قسريٍّ، يليه بعد كلِّ هاته المشاهد الطَّبيعيَّة الكونيَّة الممثِّلة حروفًا وكلمات قد انتقاها الشَّاعر بحرفيَّة لتناسب السِّياق من لزوم الإِنسان محلَّه ليظلَّ استثناءً من هاته الحركيَّة بالكون، وقد لزمه السُّكون قسرًا، فما بين كلمة معرَّفة بالبداية "النَّهار" إِشارة للوضوح بفتحة تُستهلُّ القصيدة وكلمة أَخيرة معرَّفة بها سكون لزمها أَعقبتها علامة تعجُّب انتصبتْ مستنكرة ومستغربة وقد اتَّخذت شكل تساؤل فلسفيٍّ عميق كينونيٍّ:
- أَينَ ذَهَبْتُ أَنَا؟
- إِلَيَّ.
- مَنْ كَانَ مَعِي؟
- الشَّاعِرُ فِيَّ.
إِنِّي مَعِي أَسْمَعُ وَأَرَى.
أَيَّة نصوص هاته الَّتي يقترفها لغة كينونيَّة تغوص كلماتها بانسيابيتها بمسامات الرُّوح تجوب الذَّاكرة؟! تسائله وينادمها، وهو النَّابض انعتاقًا إِلَّا منه يرقى بفصله الشِّعريِّ النِّيسانيِّ بوحه الَّذي حبَّرته الدَّهشة وهو الشَّاعر الَّذي "يمشي بمحاذاة قلبه":
لَا أَنَا سُلَيْمَانُ،
وَلَا هِيَ بِلْقِيسُ،
إِلَّا أَنَّ الْقَصِيدَةَ هُدْهُدٌ.
أُهَيِّئُ أَجْنِحَتِي
قَبْلَ أَنْ يَخْطِفَنِي عَرْشُهَا.
لغة محلَّقة بجناحَي الإِبداع والمخيَّلة تحيلنا إِلى مشهد قصصيٍّ اقتُبس منه، واقتُنص ما سيكون النَّبأ اليقين حروفًا مبدعة؛ فلا قيد يغلِّه ولا عرش قصيدة سيخطفه، بل هو الحرُّ الطَّليق المنفلت من القبضة:
قَمَرُ اللَّيْلِ يَمْنَحُنِي حُلُمًا..
قَمَرُ النَّهَارِ يُثِيرُ مُخَيَّلَتِي..
قَمَرُ الْقَلْبِ لَا مِيقَاتَ لَهُ..
أُصَوِّبُ سَهْمَ شِعْرِي نَحْوَكِ
فَأَصْطَادُ نِي (تَانْكَا) إِلَيْكِ!
إِنَّها طقوس مخيَّلته؛ لا يتعبها الشِّعر ولا تتعب منه بل برغبته، وهناك يتجلَّى تميُّز التَّانكا عربيًّا حيث ذي القصائد بها فصاحة ودربة شعريَّة وحنكة تصوير لا تقليد ومحاكاة لصيقة بالأَصل، ومرد هذا لمرونة اللُّغة العربيَّة ولاشتقاقاتها اللفظية والبلاغية، وهذا ما يُشهَد به للشَّاعر محمَّد حلمي الرِّيشة المتمكِّن لغةً أَنَّه يشتغل على النَّصِّ اشتغالًا حثيثًا إِنتشائيًّا لغويًّا من حيث النَّحو والصَّرف والبلاغة:
فِي هٰذَا الْخَرِيفِ المُتَبَاهِي،
الَّذِي يَبْتَلِعُ الْأَزْهَارَ بِشَرَاهَةِ دِيكْتَاتُورٍ،
تُسَرِّبُ لِي وَرْدَةَ أَمَلٍ خَلَلَ ضَبَابِ يَأْسٍ!
حُبُّنَا مُسَوَّرٌ بِعُلُوِّ قَلْبِهَا
وَارْتِفَاعِ نَبَضَاتِي.
هي القصيدة آسرة مخيَّلته بعلوِّ قلبها لروح الشَّاعر فيه النَّابضة ولاء للشِّعر، وهي لغته بإِيقاع إبداع على نسائم ريفيَّة والَّتي، وإِنْ تباهت بهبوبها الشَّره، فقصيدته/ الوردة تسرِّب إِليه عطرها.
قصائد بها تناصٌّ رفيع التَّشكيل والصِّياغة لقصائد ترتقي، ترصد حروف الشَّجن وهي تطلُّ من عزلة إبداعيَّة جسورة، وهي شبيهة الشَّاعر فيه قد انفلتت من قفص الصَّمت وظلَّت وفيَّة لضلوع دواته/ قلبه:
بَعْدَ كُلِّ تِلْكَ السَّنَوَاتِ
ثَمَّ مَنْ لَا تَعُدُّهَا عَلَيَّ
إِلَّا بِعَدَدِ قَصَائِدِي.
يَا الْحَبِيبَةِ الْتُضِيءُ
حَتَّى غَيْرَ المَرْئِيِّ!
(الكاتبة).
حروف منتبهة الدَّلالة حدَّ اللَّياقة الفكريَّة قصيدًا بحضور لافت لكلِّ ما هو معرَّف بـ(أَل) "السَّنوات الحبيبة التُّضيءُ غير المرئيِّ"، أَو بالإِضافة، أَو ياء النَّسب (قصائدي) تحويل ما هو فعل حركيٌّ إِلى ما هو ثابت لتغدو الجمل رصينة اسميَّة دالَّة على السَّنوات المديدة، وللذَّكاء التَّوظيفيِّ لعلامات التَّرقيم ما يخدم القصيدة بعلامتين هما (النُّقطة) و(علامة التَّعجُّب)؛ فالنُّقطة بعد كلمة "قصائدي" عند نهاية السَّطر الثَّالث، وهو عماد قصيدة التَّانكا ما دام الرَّابط بين ما سبق وما سيلي، فكأَنَّها وساطة العقد، فسنوات الشَّاعر، بكلِّ حالاته وتفاصيل ذاكرته، هي النَّاطقة والواصفة والشَّاهدة أَنَّه هو نفسه قصائده سيرته، أَمَّا علامة التَّعجُّب فدلالتها تحيل إِلى توهُّجهما معًا بنور الشِّعر وحدهما المتكتِّمان على سرِّ حبرهما تناسقيَّة شديدة بتراتبيَّة أَصوات الحروف وترصيفها:
بَعْدَ كُلِّ تِلْكَ السَّنَوَاتِ
ثَمَّ مَنْ لَا تَعُدُّهَا عَلَيَّ
"بعد" بظرفها الزَّمانيِّ وقد تلتها "كلّ" باستغراقها لـ"تلك" بلام البعد وكاف الخطاب لتطلَّ كلمة "السَّنوات" المعرَّفة بـ(أَل) بكلِّ حمولاتها المتخيَّلة والمعيشة، لتليها "من" للعاقل وهي إشارة للُّغة/ للذَّائقة وللرُّوح الَّتي يسكنها الولاء لشاعرها، فتوظيف أَداة دالَّة على العاقل هو هدف متوخَّى لإِظهار شدَّة تعقُّل لغته، وهي المدينة له كلَّما باحها ليظلَّ استثناءها بأَداة استثناء "إِلَّا"، ولتظلَّ هي تفاصيله بـ"ياء النَّسب" هاته؛ الجماليَّة الشَّاعريَّة بأَبعادها الفكريَّة الشِّعريَّة والإِنسانيَّة الشَّاعريَّة هي قوَّة اليقين السَّاكنة بالكلمات بكلِّ خبرة لغويَّة تجعلك حين قراءتك لقصائد التَّانكا الرِّيشيَّة وهي تمنع عنك جسارة التَّأْويل الَّذي يقدح النَّصَّ بتحميله ما لا طاقة له من عنف قراءة عابرة تسقط عليها ما لا تنضح به، فما دام النَّصُّ يحترم إِنسانيَّتك فهو يلزمك بقراءة جادَّة عن قصائد بتعدُّد صياغاتها ومشاربها؛ فما بين كلِّ قراءة لي نقديَّة أَو تقديم اكتشفت من خلالها أَنَّ ثَمَّ ذلك الخيط الرَّفيع وهو الحسُّ التَّذوقيُّ الَّذي يميِّز ما بين التَّحليل والتَّأْويل وسبر الغور واكتشاف ما لاح من المكنون اللَّفظيِّ والدَّلاليِّ اهتمامًا مكثَّفًا بالنَّصِّ الشِّعريِّ، فتدنو ذائقتك للإِنصات لبوح الكلمات من خلال أَصواتها وتراتبيَّتها الَّتي تشي بها أَناقتها، فالحروف والوقوف عند علامات التَّرقيم، فدلالة الفاصلة رسمًا وموضعًا غير موضع النُّقطة أَو الفاصلة المنقوطة، ودلالة الأَفعال بزمنيَّتها وتموضعها بالسُّطور بتوسُّطها لها أَو استهلالًا أَو ختامًا تتغيَّر حسب السِّياق الشِّعريِّ الدَّلاليِّ. كلُّ هذا الاشتغال الحثيث من الشَّاعر يجعل القراءة النَّقديَّة تتطلب صفاءً ذهنيًّا خاليًا من منغِّصات المجاملة الَّتي تشكِّل مانعًا وحاجزًا لإِدراك ما جماليَّة النَّصِّ الكينونيَّة للحرف والفكريَّة للدَّلالة؛ إِذ كلُّ قصيدة تقرأُ على إِيقاع مخيَّلة لغويَّة لها سلطة الإِبداع، لذا فقراءة النَّصِّ الشِّعريِّ يجب أَن تتمَّ في خلوة عقليَّة ذهنيَّة خالية من أَيَّة مؤثِّرات خارجيِّة مسبقة كي يتمكَّن النَّاقد من العبور إِليه ببصيرة ذائقته.
ما يثير الإِعجاب تقديرًا؛ خوضُ الشَّاعر الرِّيشة لقصائد عن جائحة "كورونا" بلغة متَّقدة بوصف ونعت وتوظيف لما يناسب السِّياق بحزن متأَنِّق يرتقي بتانكاه وسط عتمة الحجر، وقد باح الشِّعر منه عن وجعه الفلسطينيِّ عن الخيبات المتتالية عن أَسئلة الأَحفاد الَّتي ما لها من جواب وردٍّ إلَّا هذا التَّوثيق الشِّعريِّ المهيب بغريزة البقاء الَّتي تنفطر من الكلمات بتدفق الدَّلالة، حيث إِنَّ الشَّاعر شكَّل بكلِّ قصيدة عن الجائحة لقطات تُبرز الملامح المتمظهرة بحزنها وشجنها؛ إِنَّه الاشتغال الإِبداعيُّ بالتَّخيلِّ اللُّغويِّ المنتبه بقصائد عن الحجر عن الواقع العربيِّ بكلِّ انكساراته. إِنَّها شعريَّة الزَّمن القلق الإِنسانيِّ العربيِّ:
عُزْلَةٌ مُنْذُ آذَارَاتٍ/
مَنْعُ تَجْوَالَاتِ قَلْبٍ/
حَجْرُ جَسَدٍ نَافِرٍ.
مِنْ دُونِ وَدَاعٍ
يُغَادِرُنِي آذَارُ مُتَنَاسِيًا حَقِيبَةَ نُدُوبِهِ.
العزلة الانفرادية مذ سنين بـ"آذارات"، وهي مواسم الشِّعر الآن أَيضًا، يغادر متناسيًا عمدًا ما اقترفه، إِلَّا الشَّاعر وحده من يحتفظ بندوبه. قصيدة بعوالمها النَّفسيَّة من شجن وأَسف وحنين وعتاب لآذارت مضت من العمر، مزج الشَّاعر فيها بين أَصوات الحروف وأَصوات داخليَّة بدواته، أَفرج عنها بالكتابة لتعلن ترانيمها الآذاريَّة/ المارسيَّة:
مُنْذُ مَا قَبْلَ الْعَزْلِ المُتَفَشِّي؛
أَضَعُ كَمَّامَةً قَبْلَ أَنْ أَلْتَقِيَ بِالْقَصَائِدِ
خَشْيَةً مِنْ عَدْوَى شُعَرَائِهَا-
أَنَا لَا أَكْذِبُ،
وَلٰكِنِّي أُعَقِّمُ الْوُضُوحَ!
تأْكيد صريح من الشَّاعر لرفضه التَّقليد بل نهجه لديدنه، ورفضه لكلِّ قصيد هو خطابة ما بشعرٍ يعلو صوتها عن جماليَّة القصيدة الحقَّة. إِنَّه الشَّغف المثابر للشَّاعر لا مجال للفجأْة، ولا للصُّدفة، ولا للمحاباة والمحاكاة، بل تماسك لغويٌّ وذائقة ثائرة، لا كلمات مطاطيَّة بلغوها، ولا ضيِّقة بغلوِّ معانيها، من دون تغاض عن وجعه الفلسطينيِّ الَّذي لا يندمل، وموقفه الشِّعري والإِنسانيِّ من كلِّ الخيانات الَّتي أَبان عنها شعرًا في عدد من قصائده ليعلن للمرَّة الغصَّة بتانكاه:
بَيْنَ مَا قَبْلِ (أُوسْلُو) وَقَبُولِهَا
وَ(صَفْقَةِ الْقَرْنِ) وَصَفَعَاتِهَا؛
تَبَثَّرَتْ بَشْرَةُ قَلْبِي بِخِيَانَاتِنَا.
لِمَاذَا أَيْقَظَتْنِي أُمِّي مِنْ حُلُمٍ بِغَدٍ؟
أَلِأَسْمَعَ نُبَاحَ (تْرَمْبِ) أَمْ خَشْيَةَ الْـ(كُورُونا)؟!
تذكير بالخيبات بتوظيف حاذق للكلمات (ما قبل- قبول) و(صفقة- صفعة)، وتشبيه للقلب بالبشرة وهو الذي تبثَّر من الخيانات فكانت ندوبها به بارزة لا شفاء منها ومن آثارها، وهو تشبيه لم يسبق إِليه أَحد بهذه الدِّقة وهذا الوصف المتفرِّد.
تانكا الحَجْر وهي تطلُّ بكلِّ هذا الصَّوت الصَّادح أَلمًا عن وطن يسفك فيه دم الحقِّ:
أَزْهَارُ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ فِي أَرْضِنَا المَسْرُوقَةِ
تَكْثُرُ عَدَدًا مِنْ ضَحَايَا الْجَائِحَةِ!
أَيُّهَا الْعَالَمُ
تَرَى الَّذِي مَا لَا يُرَى إِلَّا بِمِجْهَرٍ،
وَتَغُضُّ الطَّرْفَ عَنِ الَّذِي يُرَى احْتِلَالًا!
لغة شعريَّة باهظة الأَلم تتلأْلأُ بريقًا من عيون الدّوارة وقد أَسهدها نصَبا فلسطين؛ اتَّقدت، استنارت، احترقت، كابدت، واصطبرت.
تانكا ريشيَّة حطَّت أحمال معانيها الشَّاهقة بشهقاتها على السُّطور وهي من الضُّلوع فاض حبرها من مَعين الشِّعر.
نصوصٌ باذخة أَترفتنا بها لغة شاعر متفرِّد متميِّز مجدِّد لا يلبث يدهشنا كلَّ مرَّة بإبداعه الباسق.
محمَّد حلمي الرِّيشة... لشعرك تنحني الذَّائقة.