الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"بوهيميّة" لميراي عبدالله شحادة: زيت من زيتونة نهضت مع الفجر

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
غلاف الديوان.
غلاف الديوان.
A+ A-

توافيك سطور ديوان "بوهيميّة" لميراي عبدالله شحادة، بخفّة الوسن الّذي يأتيك وديعًا. ورغم وداعته، تصاب بالصّعقة العاطفية، فتصبح أسيرًا في معتقلٍ طوعيّ للوجه الآخر من الليل، شاردًا مع الأسرار بين القلب والكتاب.

وأنت تنظر إلى الغلاف، تسحبك غواية العنوان إلى المضمون. تحاول سبر أغوار غجرية، فتراقصك بشغف اللّحظات، وتحلّقان كزوج حمام فوق الروض المفروش بالحبر المعطّر، هاربان من عذاب العناق الصامت.

نستمر في التفتيش عن ناياتنا العطشى، لنعود إلى أسرار أحلامنا، كي نعزف لحن عشقٍ لبوهيمية، "راحت تخلط النّبيذ بالماء/ تارةً تسكرُ وطورًا تهذي/ وتحصي النّجوم في السّماء!".

جماليّة خلّابة تظهر بين تورّق الأوجاع واستيقاظ الأحلام، فمن وُلدت من رحم فكرٍ مناجية الألم والحب والأمل شعرًا، هي امرأة "من أخطر النساء". شهدناه حبيبًا عن شرفة المساء، تائهًا في ندوب الشمس يعصر اللهب، "لن أسامحك يا رجلُ/ حوّل الماء إلى خمرٍ/ في أقداحي!/ وغيّر لون الحبر في دواتي،/ وسكب من زرقة أمجاده/ مجدًا في مزود أشعاري".

 تنبض أحرفها إصرارًا، وحنينًا، وغضبًا، وحيرة، وتسيل مشبعة غبطة في مقاربة الصمت، "أحبّك/ وسأطهو من وهجك/ حساء الأبجديّات".

شاعرة لهثت في عَدْوِها، لتعانق اشتهاءات ريح غضوب، قبل ولادة صحوى الألم في جراحات منثورة فوق الأحلام، "في وصالك/ تتطاير شظايا غيرتي وتقحمني/ قبائل من الجنّ وجحافل الهباء/ كيف أمحو هذا المكتوب يا سيّدي/ وأردم هذا الفناء؟" على أوراقها وُشِم العشب الأزليّ الاخضرار، ليفوح عبيرها من قمحٍ مزهرٍ، ونصل سيفٍ، وكتابٍ، وبندقيّة، "من أهواه يا أمّي/ فلّاحٌ، معولُه يزهر في بندقيّةْ/ وفارسٌ سيفه ينشد الرُّقيَّ/ معلّمٌ يخطّ يراعه الأمجاد الأبيَّهْ/ هو جنديّ يا أمّي وأنا مثله جنديَّهْ!"

 اختفت الصورة في حقول السطور، فالقمح الموجوع من لسع أشعّة الشمس، يشتهي الضباب قبل الحصاد، "أنا رغيف خبز/ من طاحونة الوجع قمحي،/ ومن ندى الزّهر دمعي!/ ...أنا امرأة من ضباب!"

هي الّتي كتبت أضمومة نصوصٍ، مُعتصِرة من ألوان قوس قزح، فارشة أملًا، بين زرقة السماء الموشومة بالضباب، والعيون الحزينة القلقة، "ما ذنب سمائي إن لم تعلم/ نسورك كيف تمخر عباب ضبابي؟!/ وطئت مداد كوني، وأنت قوس قزح/ عرفتَ بعض ألوان وغَفَلْتَ، عن معجم ألواني!"

لا تغار سروة من نعيق غراب، وهي التي لم تُخِفْها رعود الشتاء، فقد اغتسلت بماء العواصف، من خطايا الهجران، طهارة لروحها الأبيّة، "إن كنت تهواها فالسّلام عليك،/ وإليها أيضًا سلامي!/ ولا تخبرني بعد اليوم/ عن أشباه النّساء!"

 ثمّة همسٌ ووجدٌ، ربَّما نسيته الأزاهير يومًا، في جيوب الرياح، فهل نحن نقرأ الشفاه أم المبسم، أو زهرًا غاويًا ينادي: "حتّى لو سألتك الرّحيل/ إبقَ معي واخلع معطف السّفر/ إبق معي حتّى تورق أغصان الشّجر/ ويزهر اللّوز في كرومنا/ حبًّا يراقص دوالي العمر!"

إنّك مع جمالٍ لا ينتهي، وفجرٍ تهادى دلالًا على ثغور الأيام؛ فالشاعرة في شوق وانتظار لعيد مولدها، في محطّات مفتوحة للفضاء، مرصّعة بنجوم وقبلات: "في كلّ عام/ أكبرُ يا نيسان ألف عامِ/ وأوصدُ خلفي تاريخًا من دون أبوابِ..."

حين يموت الرعب، في صحوها العذب، تنعتق الذكريات. فهل يصغي الصديق لأعاصيرٍ خجلت من همس الجراح؟ "ستعلم... ستعلم يا صديقي كم مرّة/ ستموت بلا رثاء وأنت مقيّد في هذه الحياة!/ حاوِلْ فقط! حاوِلْ أن تكابر ولا تشتاق!". يتبدد الأرق مع تفاصيل زاهرة، تركن الأمكنة وعطرها الدافىء، فهل ينام الشوق؟ "في دستور الهوى أسجو/ وله فقط أرتّل المزامير.../ وأنا بين ثنايا تفاصيله/ ألد عمرًا فيه ينام عمري الصّغير!"

كيف تعبر سرادق الألم، وقد قُطع حبل الوصال في قيظ صحراءٍ؟ فعندما تنزف الأجنحة، يعلو صوت الشاعرة في العتمة، من مجامر تلهب الأوراق: "أنا راحلة يا أمّي/ عن أرض قاحلة/ فيها الحبّ/ أضحى كسموم الثّعابين!"

 أحلام ليس لها تاريخ انتهاء، تائهة مصقولة في عجقة الجّمال، فمن الرابح الأكبر، اليراع، أم السطور، أم ريشة صقلت الرسم بنار حبٍّ، على لوحة من خيال؟ "سأهديك انهزامي في الحبّ/ وأسدل ستائر غربتي/ يا من أعَدتَ رسمي/ وصَقلي/ بريشة عاشقٍ مجنون..."

 يعلو صوت كفيفٍ، صراخًا عبر حناجر الزمان، منتظرًا قناديل، شحّ فيها زيت الترحال، في صدر السماء. لكّن الغيوم، عادت إلى ضياء مطرها المعتاد فوق الحقول المزروعة سنابل، "ضرير أنا/ على رصيف الهوى/ أمضيت عمري/ منك أتسول كحل الياسمين/ علّني أجعلك تبصرني/ فترى فيّ وهجًا من قناديل العاشقين/وبعض عطرٍ للهوى يتصاعد منّي، أنا عشتار، دخاني الحزين!"

 أميرة الشغف تشتهي قبلة، هل هي نبوءة، أم صُدفة، أم وعد، أم قدر يداعب المستحيل بشقاوة العناق؟ "عدني أنّك ستقبّلني، وتوقظ أميرتك الهاجعة/ في قصور النسيان!/ عدني أنّك سترسمني/ دوائر خارج الحدود/ وستجعل أحزاني/ مراكب تعبر هذا الوجود!"

 شاعرة أضناها هجر من رسمت معهم، ألوان الفرح ذات يومٍ. فعزفت لحن الحزن، على أوتار الشغف، محلّقة كأنشودة حبٍّ فوق أرض الظلمات، "شكرًا لهجرك لي!/ يا من رمّم في داخلي أطلال السّماواتِ/ ومن جنائن الهوى اقتطف لي ثمار الظّلمات/ يومًا، رماني بأسهم كيوبيد ورحل/ في مواسم صيده للغادات الجميلات!"

 إذا أخضعنا خلايا القصائد والنصوص لفحصٍ مخبريٍّ، نجد في حمضها النوويّ، زيتًا من زيتونة نهضت مع الفجر، لتراقب والدة عاشقة لحبوبها، كعشق الأرض للريح. وضمن غلاف النواة، جينات تنده "شاعر الكورة الخضراء" وقد انتشى يراع ابنته، فسطعت منه بروق مجدولة بالحنين، أمطرت الوطن ثقافةً، وشعرَا، كما نثر والدها قصائده على جغرافية لبنان الجميل، وقد التمعت أفكاره على ناصية الإلهام. وكبرت ابنته مع كلّ نيسان، وما تزال تنتظر عودة طيفه، مرددة مع الشاعر سعد كرم: "عن يسألوا عنّك زهور المارغريت/ وشتلة الغاردينيا وحوض الحبق/ مستنظرينك طولت ما عدت جيت/ ولو جيت/ كانت حصتك أول طبق."

 حين امتشقت ميراي الجموح بدون هوادة، أصبحت الريح موشومة بفتنة عريّ الحقول الزاهرة. ونحن حين نرتشف شعرها مع الصباح، نتوسد أوجاعنا ونحلم، ونطبع على جبين النهار ضياء صفحات من الزمن.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم