الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

"تحت سقف العقل" لتريز جريس إجريس: انعتاق من زنزانة العدم

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الغلاف.
الغلاف.
A+ A-
إنّ القارئ في كتاب "تحت سقف العقل" لتريز جريس إجريس، يجد الحريّة الفكرية المقدّسة، مرنمِّة بدون زيف، داخل سجنٍ كبير، باحثةً عن قاعدة تطبيقية للشعارات المثالية الكبرى، من أجل ردم الوديان السحيقة بين الرعيان والرعية.
 
سبعة حوارات ضمن الكتاب، حاولت تظهير الواقع الاجتماعي والسياسي الأجوف، وأدركت الذات الوطنية والاجتماعية من جوّانيتها وتداخلاتها، وبُعدها ونسقها. فالتمس القارئ جلاء الحقائق بمعرفة العارف وسلوك المتدبّر.
 
ضمن الحوار الأول، "ما بين اليأس والرجاء"، الذي دار بين أستاذة رياضيات وأستاذ فلسفة، أظهرت الكاتبة نزعة طبيعية في تنظيم الأفكار، من خلال النقد وحسن الجوار بين الفلسفة والهندسة، وجعلت الرابط بينهما، والخارج من ثوابت وتوقيت منتظم في حياة الإنسان، واضح التأثير السلبي في حال انتفائهما، "إن إضعاف مادة الفلسفة يساهم إلى حدٍّ ما بتغييب الحسّ النقدي وروح المساءلة والمحاسبة عند الشباب. وبتحجيم مادة الهندسة نسعى بشكل أو بآخر إلى تضييق آفاق طلّابنا والحدّ من طموحهم".
 
عالجت الكاتبة ضمن الحوار الثاني "ما بين الشرق والغرب"، العبث الكامن في التكرار الزمني الممل، والاستمرار الوهمي الرتيب، والسأم من طقوسٍ بالية، عندما أوضحت الفرق، بين حاضرنا الأليم وإشعاع شمس الحضارة الغربية التي لا تميل إلى الأفول، في رحلتها العبقرية الطويلة في بحور الإنسانية، "بل واقعنا هو الأسود...! هذا الواقع الذي نتعامى عنه ونتلهّى بالقشور كي نوهم أنفسنا والآخرين أننا بألف خير ونحيا بنعيم"... "لماذا نقلّد الغرب بكلّ ما هو بعيد عن عاداتنا وتقاليدنا ونرفض الاقتداء به بكلّ ما هو راقٍ، متحضّر ومضيء؟!".
 
وكان ضمن الحوار الثالث، "ما بين إيمان وعقل"، عرضٌ للمعاناة الفكرية والحياتية والمصيرية، وكشفٌ لروافدها، هذه الروافد المتجلّية بوجود القضايا المضطربة الغامضة. فالاستغراق المأسوي الكائن في خطابات رجال الدين، يتجدد مع حرارة كل شهوة نابعة من الأنفس الطامحة أسطوريًا للخلاص. وتستمر الشكوى الإنسانية المأساوية الحادة من خلال السطور، ويستمر النزيف الروحي في الرعايا باتجاه الأعماق، ويبقى الجرح اللاهوتي هو السبيل إلى كنيسة الجسد وزنزانة العدم، "إنما ألوم رجال الدين والمؤسسات الدينية التي تتحمّل مسؤولية ترقية إيمان رعيتها برفعه إلى مستوى العقل والوعي، لا العمل على تشويهه وتضليل المؤمنين والنزول بإيمانهم إلى ما دون العقل بحجّة أن الإيمان والعقل لا يلتقيان...".
 
وكانت نفحة الزواج سرًا قادمًا بحلول الأحلام الواهية، تختال حسرةً بين معاني الحوار الرابع "ما بين قانون وقانون" فقد غاب من يحترم الزواج ويخشع أمام عفّة الأزواج، حين تنازل رجال الأديان عن السماء، وامتلكوا محاكم على أرض الفناء، فهم لا يُستجار بهم، لأنهم دائمًا في شغلٍ عن رعاياهم، يعبدون الرّب الثاني. أحلام المحبين جميلة، أمّا اليقظة فتشاويه عليلة، لأن الأديان متخاصمة تحمل خناجر الغفران، "لكن من سلّم، أصلًا، هذا أو ذاك مفاتيح الجنّة وأعطاه الحقّ في تقرير مصير المؤمنين؟! أليس الأولى أن يقام الحدّ أو تمنع الأسرار عن كلّ من يعقد زواجًا دينيًا ثم يكذب ويخون وينكث العهد الذي قطعه أمام الله والمجتمع وبمباركة رجال الدين؟". 
 
 
نقفل الباب الرابع على نتفٍ من الحسرة داخل نفوسنا، مرتجلين الصمت لسماع همس الوجع بين حبيبين فرّقهما الدين، واستبدّت بهما التقاليد، لندخل الحوار الخامس "ما بين تاريخ وتاريخ" بأنفاس متقطعة، علّنا نستعيدها على عتبته، فنصطدم بالعبث القادم من وجع التاريخ، عبر إفصاح منذور لكلمات في البوح الخاشع أمام وطن المتناقضات. عندما نقرأ هذا الفصل، تحضرنا ندوة دراسية نظّمتها جمعية متخرجي المقاصد الإسلامية في بيروت والتي ضمّت عدداً لا يستهان به من دكاترة التاريخ من جميع أطياف وألوان البلد، ولم تستند توصياتها المبهمة الصادرة بتاريخ 5 أيار 1993 على وقائع ثابتة، أو ترسم تعليمات تطبيقية واضحة لكتابة تاريخ لبنان. لكنّ تريز إجريس، لم تنظر إلى ضعف الوطن من خارج الإناء، بل دخلت إلى الأنواء التي تضّج داخله، وأظهرت من التناقضات ما يجعل لبنان مميزًا في محيطه، لجهة تداخل أحداث التاريخ مع حلم بناء الدولة التي بقيت وستبقى حلمًا بالرغم من تخطيها مئويتها الأولى، "من يومها ونحن نعيش في وطن لا عماد فيه ولا ربيع".
 
الحلم مات في لبنان "ما بين الجهاد والاجتهاد" الذي هو عنوان الحوار السادس من الكتاب. فقد حاول المتسلطون إدارة الأمور بأحادية، مستنبطين نظامًا لا يعمل، متّكلين على عقم الفكر السياسي الهادف إلى عبادة الكراسي وحلم الرضى من وكلاء أرضيين.
 
لم يستطع أستاذ الفلسفة، إقناع "جهاد" المؤمن بالمقاوة إيمانًا أعمى، بصواب كلامه نحو الجمال والحرية والمعاني السامية، فقد بقي المقاوم كما هو، وكما يشتهي منذورًا لصوت يرشده معرفةً نحو الحكمة، لكنّه سكن في واقع التسكّع، لاهثًا بين الصواب البعيد عن أمور تلقّنها من أسياد الحرب العبثية، والخطيئة المرتجلة التي تجعل مرتكبيها بعيدين عن أمان العيش، وبقيت وجوه أسياده حالكة بدون ملامح، "وهل تظنّ بأن هذا الكلام سيلقى صدىً في عقلي أو سيغيّر شيئًا من قناعاتي؟!".
 
ضمن الحوار السابع والأخير "ما بين نقد ونقد"، عرضت الكاتبة معالجات ابن خلدون لإشكالية العقل والإيمان ما بين الفلسفة والدين، "لكن دعوته هذه بقيت صرخة في خلاء... فلم تجد بها، من بعده، في الواقع صدىً ولا في الفكر أثرًا...!".
 
عندما يصون العقل العقيدة، في مجتمعات تقرأ بانصياع أعمى ما يقال لها بأنّه الوعي، وفق ما يريد القابض على الزمام، يقع العجب، "فيا للعجب! ها هو ابن خلدون يقرّ ويعترف بحاجة الإيمان للعقل!".
 
من هذا الواقع الفلسفي المشؤوم، وجدت الكاتبة الفرق الشاسع، بين ابن خلدون وكنط الذي وضع "الدين والأخلاق تحت وصاية العقل"، متأسفة على أفول حريّة الفكر النقدي العقلاني تجاه الدين "وبدأ التقهقر والجمود، عندما كُفِّر الفلاسفة وتمّ الحجر على العقل ووُضع تحت وصاية المذهب الواحد والحقيقة المطلقة والدين الحقّ..!".
 
أيضًا ضمن هذا الحوار، نجد جدلية الوعظ، حول هوس التنظير في حقوق المرأة، قبل الإصرار على تحرير الفكر من الموبقات الموروثة، فلا يتم تحرير المرأة إلّا بتحرر العقل في المجتمعات. كما أظهر النقاش وضوحية التناقض الذي حلّله المفكّر السوري جورج طرابيشي ذاهبًا إلى تفنيد الولاءات للنقد البنّاء التي ظهرت في كتابات قاسم أمين بالمقارنة مع تدوينات الدوق داركور. وأيضًا ظهر جليًا بين السطور صلابة الإطار الذي أراده طه حسين لتحصين المصريين ضمنه، كي لا تصل إليهم خدوش الغباوة الدينيّة الانفعالية، "إن الله خلقهم للعزة لا للذلّة، للقوة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة، وللنباهة لا للخمول...".
 
أدرجت تريز إجريس مقالاتها في كتاب "تحت سقف العقل" حسب الترتيب الزمني لكتابتها، فبان الفرق الشاسع في الثقل الفكري الفلسفي، بين أولى المقالات التي أطلقت خلالها معجزة الانعتاق من حرّاس العبودية وخطايا العدم، فكان النقاش فيها سلسًا لا يحتاج إلى تركيز، ودخلت معانيها إلى العقل الواعي، كالفرح الآتي من وجع المجتمع، وآخر المقالات التي ذخرت بالفلسفة العميقة، الظاهرة من كيفية مقاربة الكاتبة خلالها للحياة، من منظار يختلف عن آليات التفكير المعهودة، مختصرة جوهر الإنسان الزائر لهذه الفانية، والعابر مستنقع الزمن المؤقت إلى مكانٍ آخر أكثر لطفًا وسعادة وكمالًا باعتقاد المجتهد الواعي والمجاهد المنقاد لأورام الأفكار غير الحميدة.
 
دخلت الكاتبة دائرة الخطر لأنها قرأت وفهمت وكتبت ما فهمته، طالبةً السكينة مع الراقصين ضلالًا على حفافي الخناجر. فويل للعقول التي تنسج الخلاص مع العابثين على سبل الحياة والمتمرّسين بالمواعظ استعراضًا.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم