برهان علوية: حياتي كلها كانت انتظاراً!

توقّف برهان علوية عن مزاولة مهنة السينمائي قبل نحو ١٥ سنة بعد شعور باليأس والاحباط والاكتفاء من توثيق أوضاع بلاد لم تتعافَ البتة من أمراضها المزمنة. دأب المخرج اللبناني طوال حياته على نقل حكايات هذه البلاد في أفلامه القليلة، الوثائقية والروائية. في أواخر الصيف الفائت مات علوية عن ٨٠ عاماً وهو في منفاه الاختياري البلجيكي، أي بعيداً من الوطن الذي يمر بمحنة لم يشهد لها مثيلاً في العصر الحديث. مهرجان بيروت للفيلم الفني الذي انطلق الاسبوع الماضي في "مسرح مونو" ويستمر في أشكال مختلفة حتى نهاية العام المقبل، عرض في افتتاحه "رسالة من زمن المنفى" (١٩٩١) في لفتة تكريمية للفنّان الراحل. في هذه المناسبة، ننشر هنا شذرات من مقابلات عدة كنت أجريتها مع صاحب "بيروت اللقاء"، حيث يلقي نظرة مستهجنة على كلّ شيء، متنبئاً في بعض الأحيان بما كانت ستؤول اليه الأحوال في السنوات اللاحقة.
 
 
* ما هي المتاعب التي تتعرض لها خلال التصوير؟
- عند التصوير لا أشعر بتعب، انما بمتعة كاملة. الارهاق الجسدي والفكري لا يفارقني ثانية واحدة، لكن ثمة لذة عندما ترى فكرة اشتغلتُ عليها ثلاث سنوات وهي تتحول إلى شيء ملموس يراه الآخرون. هذه من الأمور التي تولّد لديّ الطاقة وتمدّني بالعزم.
 
 
* هل تعتقد ان ظروف التصوير المرهقة تنعكس سلباً في الفيلم؟
- لا أعرف، الأمور ليست هكذا. أخيراً، قصدتُ ان أشاهد اللقطات التي صوّرتها وأنا في حال من الارهاق، فتبين لي ان النتيجة ليست مثل حالتي. ثم عندما يمتزج التعب بالصورة تصبح الصورة أجمل. في لحظة التصوير تجهل ماهية الصورة، لأنها لحظة انجذاب، تغيب خلالها عن نفسك... وأحياناً النتيجة التي تتوصّل اليها تفاجئك.
 
علوية خلال التصوير.
 
 
* قد يتساءل البعض، لماذا كلّ هذه السنوات لتمويل فيلم؟
- أي مخرج لبناني أو عربي يلجأ إلى الإنتاج المشترك يعاني المشكلة عينها. أفلامي مغامرة لا تعرف كيف تنتهي. أنجزتُ أعمالاً بسرعة فائقة وعملتُ على أخرى لفترات طويلة. نحن نعمل في سينما الفنّ التجريبي، وفي بلاد مثل هذه، لحسن حظي كان هناك وزيران للثقافة يعرفانني ويعرفان بالثقافة فتلقيتُ بعض المساعدة. فالوطن بلا ثقافة يبقى بلا مستقبل. الثقافة ليست للتجارة. الشعب الذي يتخلّف ثقافياً سيتخلّف من كل النواحي. في هذا المجال نحن رواد. لطالما كان لبنان مساحة للدول العربية الأخرى. وإلى الآن ما زلنا ننظر إلى ثقافتنا كأنها نوع من التسلية، ليست هذه نظرة الحكومات فحسب بل نظرة المجتمع أيضاً. بالنسبة إلى ما يحدث معي، أنا أعرف كم سيناريواً كتبتُ وكم سيناريواً خفتُ ان أكتبه وكم من الأمور ضاعت. فنحن في ظروف لا تسمح لنا بأن نكتب في هذا العصر بلغة العصر. هذا حقنا. هو حلم ومستحيل.
 
 
* هل لهذا السبب امتنعتَ عن تقديم عمل روائي على مدى ٢١ عاماً؟
- ما قدمته خلال تلك السنوات هو سينما الحقيقة. ديكورها الحقيقة، لكنها سينما. واذا كان صحيحاً إنني لم أتوصّل خلال ٢١ سنة إلى تطوير مشروعين روائيين، فـ"سينما الحقيقة" كانت البديل لي. الفيلم الذي أخرجته عن المهندس حسن فتحي، "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء"، ليس من مكان لم يُعرض فيه، أو إنسان لم يشاهده، أو كلية هندسة لم تعاينه (...). اذاً، ذلك كان خياري ان أقدّم أفلاماً وثائقية، لكن في المقابل، لم أختر عدم إنجاز أفلام روائية خلال كلّ هذه السنوات، رغم محاولاتي المتكررة. أصبحت السينما اليوم بالنسبة للإنتاج المشترك أحد الفنون الكبيرة، ونشأت حولها مؤسسات تساعد وتجازف مع المخرج لأنها أصبحت على يقين بأهمية السينما لذاكرة البشر، وللتواصل مع الآخر، وللتعرف اليه. هذا النظام معقّد، لكن حالياً ليس هناك من بديل، ويتطلب الوقت، خصوصاً عندما تأتي من بلاد غير مؤهلة بالبنية الخاصة لتقبّل ذلك النظام.
 
(…) يجب ان نفهم ان السينما تمثّل الماضي، الحاضر والمستقبل. من دونها قد نتعرض للزوال. البلدان المتقدّمة تتبع سياسة تنشيط السينما ودعمها، بدءاً من الإنتاج وصولاً إلى تشجيع الموزّع على توزيع الأفلام "الصعبة" تجارياً، لأنها تؤمن بالسينما الجريئة التي تهب الشاشة أروع ما سيبقى على الشاشة: الكتابة السينمائية. هذا ما كان الأوروبيون يطلقون عليه "الاستثناء الثقافي" في علاقتهم مع أميركا. يعني مشاركة كلّ شيء وإياهم الا الثقافة. نحن في لبنان لا نمانع في بيع الناس، لأننا نستغني عن صورتها. هذا النوع من الخطاب الذي ألقيه الآن، وفي الظروف التي يعانيها الوطن، حيث البعض يبحث عن لقمة عيش، يظهر وكأنه "ترف فكري"، لكن الشعوب العظيمة هي الشعوب التي، حتى في وقت محنتها، تنتبه لصورتها وآدابها وفنّها.
 
 
* جديدك عن الحرب؟
- الحرب انغرست في ذاكرة شخصياتي. وهل يمكنك العثور على لبناني ليست الحرب خلفيته؟ حتى اليوم، هناك مَن لا يستأجر الطبقات العليا خوفاً من القصف. ما زلنا نعيش كذباً ونفاقاً.
 
 
* هل تفكّر في المقاربة التي ستتبنّاها وأنت تطرح موضوعاً عن الحرب، بعد ان تناوله غيرك؟
- لحسن الحظ انهم تناولوها. في رأيي، أي فيلم لبناني لا يملك الحرب كذاكرة له ليس فيلماً لبنانياً. أي فيلم لبناني عمر مضمونه ١٠ سنوات هو لا شيء. انه مجرد "سكتش". قبل الحرب عوّدونا مشاهدة "سفر برلك". كلّ مسرحيات الرحابنة كانت عن "القاطع والمعبور". اليوم، الشخص الذي يريد اعطاء هذا المكان ذاكرة الهاتف الخليوي هو أشبه بالهاتف الخليوي. كلّ قصيدة ليس فيها جرح الحرب ليست قصيدة. اذا قمنا بمقارنة حربنا بالحرب العالمية الثانية، نرى انهما متشابهتان وربما حربنا أبشع لاشكاليتها المتعددة. هنا، انفجر المجتمع من داخله.
 
 
* البعض ينتقد نظرتك السوداوية إلى الواقع اللبناني...
- أليس من الأفضل ان ينتقدوا السواد الذي أمامهم؟ وهل ترى أنت "البياض" أمامك؟ وهل الذنب ذنبي اذا كنت أرى من حولي الألوان القاتمة؟ (…) أنا إنسان متشائم. ما تسمّيه أنت تشاؤماً أراه أنا حقيقة. الكلّ يقول ان الوضع من سيئ إلى أسوأ. حتى الدولة تعترف بسوء الحال، وتقول ان عليها ديوناً لا تعرف كيف تسددها. سنصبح قريباً في السواد التام. وللحروب أشكال مختلفة: الجوع، الهجرة، البطالة، قطّاع الطرق الذين يتسكّعون في الشوارع.
 
 
* في فيلمك الأخير "اليك أينما تكون"، أحد النماذج يقول ان الحرب الجديدة التي سيشهدها لبنان ستكون هذه المرة بين الذين يعيشون في النهار والذين يعيشون في الليل…
- هؤلاء الناس يشعرون بأن هناك انقساماً في البلاد. بعض الذين يعيشون في الليل لا يرون الا الليل، وهكذا الذين يعيشون في النهار، وبالتالي قسموا البلاد انطلاقاً من هذا المبدأ. هذا المنطق يعيدنا إلى منطق القسمة. من أين تنشأ هذه الأفكار؟ ولماذا عندما يكون هناك شخصان، يختلف دوماً الأول مع الثاني. لماذا هذا الموروث وهذه الثنائية العجيبة القائمة على شخصين يختلفان ويتخانقان على شيء ما؟ ما هذه المدينة التي اسمها بيروت والتي هي أشبه بفندق؟ ماضياً، اعتقدنا ان بيروت هي متروبول لأن الطريق كان مزدهراً، وفجأةً تبين أننا على خطأ. الرهان في بيروت اليوم يكمن في ان نحوّل العقلية من عقلية ناس مقيمين على هذا الطريق، إلى عقلية ناس مقيمين نهائياً في هذا المكان.
 
أسطح بيروت.
 
 
* خلال كلّ السنوات التي تراجع فيها انتاجك الروائي، رفضتَ ان تشكّل جزءاً من النظام محافظاً على استقلاليتك؛ حتى انك لم تلجأ إلى الوسيلة التلفزيونية…
- لا أمانع في خوض تجربة المسلسل، لأنه ينتمي إلى فنّ كبير، وهو فنّ رواية الزمن. لكن القليل من المسلسلات العربية توصّل إلى رواية الزمن. الفيلم السينمائي على عكسها هو فنّ إلغاء الزمن.
 
 
* هل تصنع الأفلام لإرضاء نفسك كنوع من العلاج النفسي؟
- هدفي هو التوصّل إلى كتابة فيلم ـ قصيدة. ولكن لا أرضي نفسي بل أرهقها. مرحلة التصوير هي مرحلة مرض.
 
 
* عدد قليل من الأفلام توصّل إلى ذلك الشعر في تاريخ السينما.
- صحيح، لكن أعتقد ان الفيلم الذي لا يحمل في داخله نوعاً من الشعر لا يعيش. ليس من بحث علمي من دون شعر، ومن دون شعر لا إبداع، لا تطوّر، ولا إحساس.
 
 
* بعض المسؤولين في لبنان يعتبر ان السينما ليست أولوية في الوضع الحالي...
- … وبعض السينمائيين ينتابه الشعور بأن هؤلاء لا ينفعون لشيء (ضحك).
 
 
* ولكن من المنطقي ان يحتل "تزفيت" الطرق الأولوية في دفتر يومياتهم...
- ... لكن السؤال الأهم هو: مَن سيمشي على هذه الطريق، وماذا سيدور عليها من أحداث؟ عندما تقوم بإنشاء طريق تطلق اشكالية كبيرة، لأن الطريق يعني الحياة. لا يمكنك فتح طريق والقول "لا" لنتائجها. ولا يمكن قول "لا" لسينمائي بحجّة انك تريد بناء طريق. هذا تفكير "انكشاري". عندما تقدم على توليد الحياة، فهذا يعني انه يجب عليك الدخول في تفاصيلها (…) لم تعد تستوعب بيروت ما فيها من تناقضات. فكلٌّ أصبح جمهورية في ذاته. كبرت أنانيتهم وموقعهم. تضخمت شخصياتهم. والحرب كانت منتوج أفكارهم. الجيل بأكمله "انهرس"، فكيف ستستوعبه المدينة من دون ان تأخذ في الاعتبار هذه "الهرسة"؟ تتكلّم عن الحجر والبشر، وهو شعار قديم لكنه يتبيّن لنا الآن أنه مهم. هذه الطرق نريد ناساً يمشون عليها. عليك ان تقول مَن هم وإلى أي مدى هم مواطنون لهذه الطريق والمحل. وهذا ما يسمونه نهاية الحرب.
 
 
* هل ما زلتَ تؤمن بأن تغيير عقلية السلطة ضروري اذا أردنا ان يصبح لدينا سينما؟
- بصراحة، الناس هم مَن يجب تأهيلهم. المجتمع يخاف من ان تنعكس صورته على الشاشة، لأن علاقتنا الاجتماعية بشعة حتى اننا لا نريد رؤية صورة عنها لا في التلفزيون ولا على الشاشة الكبيرة. نحن دوماً نلقي اللوم على الرقيب، لكن المجتمع لا يطالب بصورته. نحن مجتمع مريض، خرج من الحرب مريضاً، ولا يزال على حالته، بل يزداد سوءاً. مرض الكثير من المجتمعات العربية انها لا تقبل ان ترى نفسها والتكلّم على عيوبها. الرقيب ليس فقط بدعة من السلطة، بل بدعة مجتمع، والا لكان سقط منذ زمن بعيد. لا يمكنك فرض رقيب على مجتمع لا يريد رقابة. مشكلتنا أننا لا نقبل الآخر ولا نقبل مفهومه للحرية. لهذا السبب قلت لك إنني مهتم بالقصيدة، وليس بالصح أو الخطأ، لأنهما أمران نسبيان. المجتمع ينتظر منك ان تقول الحقيقة. ولكن مَن يعرف الحقيقة؟ قل لي...
 
 
* هل تجد نفسك مهمّشاً؟
- لستُ وحدي مهمّشاً. هناك كثيرون مثلي، وهذا جيد. الأفضل ان أكون مهمّشاً في هذا المجتمع من ان أشكّل جزءاً من الأكثرية التي تعيش مرضها "٢٤ قيراطاً"، وبكل راحة بال وضمير. لا أنتمي إلى هذا المجتمع، كوني مع حرية الإنسان، ومع كيانه، وأدافع عن حرية المرأة، والعلاقات المدنية بين الأفراد، والديموقراطية الحقيقية.
 
 
* الساحة التي تريها في فيلمك الأخير "خلص" ما عادت قائمة.
- نعم، لكن المثقّفين بقوا. الساحة انتهت، أصبحت في العالم. فإذا أردتُ ان أنجز فيلماً عليّ ان أذهب إلى بلدان عدة. أنجزتُ "خلص" في ٤ بلدان ومدن: باريس وبروكسيل ولبنان وبلغاريا.
 
 
* ما هو سبب عذاباتك ومعاناتك؟
- معاناتي من شعبي وليست من السينما. السينما معاناة إضافية. تعذّبك في حين تصوّرها. لكنك تضحك بعدئذٍ. معاناتي هي من شعبي الذي يتعذّب ليس من خارجه فحسب بل من داخله أيضاً.
 
 
* ألا تتمنى أحياناً ان تكون إنساناً "عادياً" بدلاً من ان تحمل "السلّم بالعرض"؟
- لستُ أحمل السلّم بالعرض. أحمل سلّمي رغماً عنّي. أنظر إلى الخلف والأمام. يقول الكثيرون ان الحاضر مستقل عن كلّ شيء. أنا لا أرى كذلك، أعتبره مكاناً تنظر فيه إلى المستقبل والماضي. ليس من حاضرٍ، هو نظرة إلى المستقبل والماضي. انتظرتُ حلم بيروت في الخارج. حياتي كلها كانت انتظاراً، ثم انكسر الحلم. "خلص" يتحدّث عن أناس ركضوا خلف الخراب. أفلامي هي عبارة عن مدى بحثي عن نفسي أنا، وليس عن أفلامي التي هي "تحصيل حاصل".
 
خلال تصوير "خلص".
 
 
* هل أنجزتَ فيلمك الأخير في مرحلة صعبة من حياتك؟
- كانت بالأحرى مرحلة أعبّر فيها عمّا أشعر به في قلبي. وأشهد انسحاق هذا الجيل. يمكنهم ان ينتقموا على طريقتهم. بعدما لعبوا لعبتهم مع بيروت حولوّها مسرحاً. شخصياتي الثلاث انجروا خلف الوهم. واتضح انه ليس من مياه. فكروا انهم من شوارع بيروت يمكنهم تغيير الدنيا كلها. أتناول فئة من الناس لم تُفسَد وأجعلها تحارب الفئة المفسودة من بيننا. المشكلة بينهم وبين أنفسهم. ليس تعاطفاً مع تصرفاتهم بل مع حالتهم ومع الهزيمة والانسحاق. فهي هزيمة جيل، وكلٌّ عبَّر عنها على طريقته. هم عبّروا عنها بهذه الطريقة، وفي النهاية قالوا إنهم يريدون الذهاب إلى أوستراليا. ما أثار اهتمامي هو احساسي تجاههم. شعرتُ بالانجذاب إلى الجيل الذي انسحق والذي كان يمكنه ان يكون مشروعاً أرقى. لكنه رأى نفسه يركب قطاراً ولم يتحلَّ بالشجاعة للنزول منه.
 
 
* هل تجد نفسك في هذه الشخصيات؟
- افترقتُ عن هؤلاء الأشخاص منذ الستينات. ما زلتُ أعتبرهم أشخاصاً مستقيمين، ولكن أدخلوا أنفسهم في مشروع يتجهون فيه إلى الهاوية. كنت يسارياً في جو الأحزاب لغاية الستينات. ثم غادرتُ.
 
 
* الفيلم يتموضع في لبنان ما بعد الحرب؟
- ليس بعد الحرب، بل خلالها. هذا هو الوجه الثاني للحرب. ولو صدر هذا الفيلم عندما صوّرته [2003] لما فهم أحد منه شيئاً. كان من المفترض ان يحصل ما حصل في لبنان لكي يفهمه الناس.
 
 
* تقصد بعد العام ٢٠٠٥؟
- نعم.
 
 
* لماذا اذاً؟
- كان الناس كلهم في لبنان يعبدون هذا الصنم. وإذا تكلمتَ عن الحرب كما قيل لي عندما أنجزتُ "اليك أينما تكون"، يعني انك تريدها.
 
 
* "بومة"!
- نعم، لكنني كنت "بومة" ضرورية. لم يُعرف ذلك الاّ بعد وقت. وكان النقد الذي وُجِّه إليَّ في هذا المعنى. (...)
 
 
* أنت في الفيلم تؤيد فكرة اعادة بناء البشر؟
- أنا لم أقل شيئاً في الفيلم، أنت تستطرد. أنت فهمتَ من هذا الفيلم انه كان يجب إعمار البشر. هذا تلميح.
 
"السينما تمثّل الماضي، الحاضر والمستقبل" (علوية).
 
 
* في أي حال، ما رأيك أنت بهذا الموضوع؟
- من الواضح ان الناس ارتموا على الرصيف.
 
 
* … وصولاً إلى ان يكونوا خارج كلّ شيء؟
- وصولاً إلى ان أصبح (لبنان) بلد مافيات. المسار ليس واحداً. لم تأخذ كلّ الأجيال المسار نفسه. ولكن كلهم تحطموا. مَن لحقوا المال، مَن نسوا الحرب، مَن قالوا إنهم ربحوا أو خسروا… الكلّ خرج خاسراً من هذه الحرب.
 
 
* أحببتُ جملة في "خلص" تقول ان بيروت كاذبة وتصدّق كذبتها. يكاد يكون هذا تعريفاً لمهنة السينمائي.
- الشاعر في النهاية أكبر كاذب. ليس الكاذب بالمعنى السلبي بل بمعنى ان كذبته هي الحقيقة. الأمر نفسه ينطبق على المخرج (...). لا يمكنك ان تعرف إن كانت القصّة الفلانية حصلت أم لا. قد لا يكون عاش هذه القصّة إثنان بل عشرون شخصاً. لكن الخيال يعبّر أكثر من الحقيقة لأنه يكذّب ليكتسب هوية. المخرج أشبه بمهندس. فهو يأتي بأفضل أنواع الحجار ويضعها الواحد فوق الآخر ليبني فراغاً. والمخرج يقتلع أوقاتاً معينة ويضعها الواحد فوق الآخر ليخلق دراما.
 
 
مع ابنه مدير التصوير هشام علوية.
 
 
* انت تطلق كذبتك وتصدّقها اذاً.
- نعم. الاكذوبة شيء نسبيّ. فبالنسبة إليّ الحقيقة هي كذبة. في رأيي، ان الفنون كلها قائمة على التزوير. الإخراج رؤية، قد لا تتحقق في الواقع، لكنها تتحقق في السينما. ففي علاقتك مع الصورة، لا يمكنك ان تعرف إن كنت أنت من يقلّدها أو هي. بينك وبين الصورة علاقة تجاذبية. الشعوب التي لا تنتج صورتها ويبقى الخارج هو مَن ينتج لها هذه الصورة، تتشبّه مع الوقت بنظرة الخارج اليها. عندها يفقد الإنسان ماضيه وهويته وشخصيته. أفلام أميركية وفرنسية تظهر العربي أو اللبناني بطريقة كاريكاتورية. عندما تنتج صورتك بنفسك من الداخل، يصبح هذا الكاريكاتور غنى لك. تقع مشكلتنا في أننا لا ننتج صورتنا من الداخل. وكأننا ننجز أفلاماً عن الأميركيين. لا يمكنك ان تمنع العالم أن ينجز أفلاماً عن العرب لأنهم موجودون. ولكنهم بحاجة إلى صورتهم المحبوكة بأيديهم من الداخل. انظر إلى الأفلام الأميركية والبريطانية كيف هي: يقبّل بعضهم بعضاً. الإيطاليون يتناولون السباغيتي والألمان هتلر!
 
 
* ونحن؟
- بائعو حشيشة ومغامرون، مقامرون ومتطرفون. هذا التطرّف يلحق بنا حتى عندما كنّا على وشك الموت. الخارج عندما ينظر إلى الداخل لا يرى هذه التفاصيل. نحن في حاجة إلى صورتنا من داخلنا. ليس في ريبورتاج تلفزيوني بل في السينما، حيث التجربة والمغامرة، إبداع الصورة والعمل. هذا هو الأصعب. لا يتسنى لنا ذلك إنتاجياً ورقابياً. هل يعقل ان نحو نصف مليار عربي غير قادر على إنتاج فيلم؟ نحن مجتمعات ترفض ان تنظر إلى وجهها في المرآة، لأن صورتها قبيحة. هناك صور ممنوع ان تظهرها وكتب ممنوع أن تقرأها (...).