كانّ 75 - "قرار المغادرة": بارك تشان ووك يحلّق من دوننا

كانّ
 
المخرج الكوري الجنوبي بارك تشان ووك يعود إلى مهرجان كانّ السينمائي (17-28 أيار)، في المسابقة. فيلمه الجديد "قرار المغادرة"، يغرقنا حتى العنق في حكاية ملتبسة ومعقّدة يجرّها صاحب "أولد بوي" لقطة بعد لقطة حتى الخاتمة. نعجب بمجمل ما يقدّمه من دون أن نفهم بالضرورة التفاصيل كاملةً، وهي كثيرة جداً ومتشعّبة جداً وغامضة جداً، باعتبارها تعود لترسم مسار الحكاية مرات ومرات. نعجب بالعناية بالشكل عند ووك، بالرؤية الفنية، بالهاجس الجمالي، بحسّ الإخراج، بخيار مواقع التصوير، بإشاعة مناخ من الغموض والترقب، وبمجموعة خيارات تنمّ عن ذوق رفيع في صناعة الفيلم. لكن - هناك دائماً "لكن" في هذا النوع من الأفلام - هناك ما يمنعنا من السفر مع الفيلم. نبقى على المدرج فيما هو يحلّق.
 
الحكاية في منتهى التضليل، وحده ووك لا يتوه في متاهاتها. محقق (بارك هاي إيل) يُغرم بزوجة قتيل (تانغ وي) رغم أنها المشتبه فيها الأولى في قتله. الزوجة صينية تعيش في كوريا ولا تبدي أيّ ندم لوفاة زوجها في مثل هذه الظروف المأسوية. كونها لا تتحدّث اللغة الكورية، يعني أنّ عليها أن تستعين ببرنامج ترجمة فورية على هاتفها المحمول الذي يحتوي أيضاً على أسرارها.
 
تانغ وي في "قرار المغادرة" لبارك تشان ووك.
 
وقعت الجريمة في قمّة صخرة شاهقة. من هنا ألقى الرجل بجسده في الفراغ. قُتل أو انتحار أو حادثة، هذا ما على المحقق معرفته. لكن انجذابه إليها والمشاعر التي تتولد في داخله إزاءها يربكان علاقته بمهنته وبالأصول التي عليه أن يتبعها، هو المعروف بأنه يقوم بعمله على أكمل وجه كاشفاً الملابسات مهما تكن غامضة. الاستجوابات الطويلة تتحوّل إلى لقاءات لا تخلو من رومنطيقية. كيف يوفق بين المشاعر والواجب، هذا ما نكتشفه في الفيلم طوال ساعتين ونصف الساعة من وجبة سينمائية، نقطة القوّة فيها هي الإخراج. فهل سيطمس الحقائق خدمةً لنفسه؟
 
الفيلم يتعذّر تصنيفه (بعضهم قارنه بـ"فرتيغو" لهيتشكوك)، يصعب الزجّ به في أيّ جانر سينمائي، لا بل يصعب حتى إيجاد ما هو مشابه له عند المخرج نفسه. في اللحظة التي نحسبه فيها ثريلر، ينزلق إلى "الرومانس"، وهكذا يخالف توقّعاتنا حتى الأخير. هو بالأحرى خليط من الجانرات السينمائية ولقاء أمزجة. حكاية الانجذاب بين شخصين من المفترض أن يقف أحدهما بالمرصاد للآخر، تيمة كلاسيكية في بعض الأفلام الـ"نوار" الأميركية. لكن في إدارة ووك، لا يمكن لأيّ تيمة ان تبقى في أدراج التقليدية. ذلك أنه يركّب القصّة ويفكّكها مقترحاً إيّاها من زوايا متعدّدة. لا يهمّ إن كان امتحاناً اسلوبياً أو بحثاً عن الحقيقة. فعلاً، لا يهمّ!
 
العناية بالشكل أهمّ ما يحرّك شغف ووك. فهو أحد رموز هذه المدرسة الكورية التي تولي الشكل أرفع مكانة. حكاياته المشبّعة بالقسوة تحفر في أعماق الإنسان الذي لطالما تحدّث عنه على طريقته الخاصّة جداً. طريقة مزنرة بعنف بارد يتسلّق إلى الرأس تدريجاً أو مباشرةً. اسلوبه لا يخلو من الباروك، لكنّه باروك حسّي. "قرار المغادرة" قد يحتاج إلى مشاهدة ثانية لاستيعاب أبعاد الحكاية من جوانبها كافة، ذلك أن الكادرات التي يشكّلها ووك تشتّت تفكيرنا وتشدّ انتباهنا أكثر من أيّ شيء آخر في مرحلة المشاهدة الأولى.
 
شرطي و"قاتلة" وجهاً لوجه.