النهار

"رئيس الصدفة" لمحمّد البندر نفَس روائيّ وقدرة على الابتكار
مارلين سعاده
المصدر: "النهار"
"رئيس الصدفة" لمحمّد البندر نفَس روائيّ وقدرة على الابتكار
غلاف الرواية.
A+   A-
لعلّها ليست الصدفة التي دفعت محمد البندر إلى الانتقال من قرض الشعر إلى السرد الروائيّ، فـ"فتى الينابيع" كان معطَّرًا بذكريات الطفولة يسردها أشعارًا مغمّسةً بالحنين، يتردّد صداها بعد إغلاق الدفّة الخلفيّة للديوان، كما ليؤكّد لنا أنّ ما قاله ليس سوى غيضٍ من فيض، وكأنّه يعدنا بتكملة للحكايا. ولكنّه يفاجئنا في روايته "رئيس الصدفة" الصادرة عن دار البيان العربيّ للدراسات والنشر، ط1 2023، بهذا الانحراف الكبير عن عالمه المرهف الشفيف إلى عالم الغابة التي قصد بها، في المفهوم الأيديولوجي، "المزرعة"، والحيوانات التي رفعها إلى رتبةٍ أعلى من مرتبة البشر، فقد عبّر من خلال الوعظة التي أدرجها على لسان قرد، عن مدى غضبه وثورته على زيف الإنسان، وعن رفضه الظلمَ والاستبدادَ المسيطرَين على كثيرين من أولي الأمر المتحكّمين بالبلاد والعباد، وأنهى عظته بمشهدٍ يُشعر القارئ بالرعب، حيث تحوّل البشر إلى سجناء في أقفاص، والحيوانات إلى متفرّجين، عندما "أُدخلَ بعض الأولاد الآدميّين إلى قفصٍ كبير مشترَك، وبدأت القرَدة بالتقاط الصور مع النزلاء الجدد وتعالت القهقهات والزغاريد." (ص 71). " أو قوله في موضع آخر: "وتمّ وضعهم في أقفاص حديديّة إلى جانب أقفاص أطفالٍ آدميّين، كانت إدارة الحديقة اشترتهم من صائدي البشر" (ص 150).
 
نقرأ فنتوه، وتضيع بنا السُّبل ونحن نعدو خلف الراوي، ونصعِّد معه في معاريج غابته، فيُخيَّل إلينا حينًا أنّنا وصلنا إلى الهدف الذي ينشده، إلّا أنّه يصدمنا بتغيير اتّجاهه وانطلاقه في مسارٍ جديد! يتملّكنا شعور بالخوف والقشعريرة حين ندرك أنّنا في عالمٍ انقلبت فيه الأدوار، فارتقت الحيوانات، وأحكمت سيطرتها، على حساب البشر الذين تحوّلوا سجناءَ في أقفاص موزّعة داخل ما اعتدنا على تسميته "حديقة الحيوانات".
 
ينصُب لنا البندر فِخاخًا يزيّنها بتواريخَ مهمّة لحوادث سياسيّة بارزة، فنظنّ أنّنا وصلنا إلى حيث يريد أن يوصلنا، وبلغنا بيت القصيد، ولكنّنا نكتشف سريعًا أنّنا لم نصل إلى أيّ مكان؛ فما التواريخ والأحداث سوى سرابٍ، يشدّنا من خلاله لمتابعة المسير طمعًا بالماء الريّان، بينما يتابع هو الطريق يرسمها على مزاجه، بأسلوب تجريديّ، مستخفًّا بكلّ ما جرى ويجري، مؤكّدًا عبثيّته، مركّزًا على أمرٍ وحيد، هو وصْف حالتنا العويصة وواقعنا المهترئ، في بلادٍ اتّفق الكلّ على وصفها بالمزرعة، وأراد البندر أن ينقل لنا صورة هذه الغابة - المزرعة وواقعَ حالنا فيها، مستفيدًا من أحداث بعينها ليبني عليها وينسج منها لوحةً سرّياليّة تُمعن في إظهار بشاعتها وفظاعة حكّامها.
 
لم يبتكر محمّد البندر جديدًا حين أنطقَ الحيوانات ووزّع عليها الأدوار ووظّفها لإيصال رسائل عن واقع الحكّام والبشر، فهذا الأسلوب معروف في تاريخ السرد، لم يبدأ مع "كليلة ودمنة" الذي ترجمه ابن المقفّع من الفهلويّة إلى العربية (القرن 8" م.)، أو ينتهي مع لافونتين في قصصه الخرافيّة Fables de La Fontaine (1668 م.)، بل استمرّ مع جورج أورويل في مزرعة الحيوان ( Farm Animal) ( 1945 م.)، وشهدناه مؤخّرًا في كتاب "مزرعة أبو رشيد" للنائب السابق أنيس نصار (صادر عن دار جنى تامر للدراسات والنشر، ط.1 2021)، حيث نقل نصّار أحداث الحرب الأهليّة في لبنان، بعدما نسبَ كلّ طائفة مع زعيمها إلى فئة من الطيور، بحيث تتناغم ألوانها مع الألوان التي احتكرتها كلّ فئة لنفسها، وبعض صفاتها مع صفات محازبيهم، كما يراها هو وكما نعرفها...
 
لقد انتهج البندر نهجهم ليس من ناحية إنطاق الحيوانات فحسب، وإنّما في بثّ الرسائل المفعمة بالحِكمة والفلسفة، كما في قوله: "الجماهير بطبيعتها ساذجة وغبيّة يمكن لفردٍ واحد يحمل مذياعًا أن يسوق قطيعًا هائلًا من الجماهير أمامه وخلفه." مضيفًا: "قال غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"... الجماهير تسعى إلى إسقاط ديكتاتور لاستبداله بديكتاتور آخر يدغدغ أحلامها". (ص 34) موضحًا في موضع آخر: "إنّ الجماهير لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلّا بواسطة العواطف المتطرّفة والشعارات العنيفة... فالقادة الحقيقيّون للشعوب هم تقاليدها الموروثة... " (ص 37). مطعّمًا بذلك روايته بتحليله ورؤيته لواقع الشعوب، محاولًا الإضاءة على نقاط كان لها دور فعّال في تغيير الأحداث والواقع، كما في السؤال الذي طرحه وأجاب عليه بنفسه: "أخبرني عن العوامل التي تساعد في تحقيق الأفكار والتطلعات الفكريّة..." ويجيب: "العوامل المباشرة منها الشعارات، فمخيّلة الجماهير تتأثّر بالصور بشكل خاصّ، وكذلك قوّة الكلمات المرتبطة بالصور التي تثيرها..." (ص 37 – 38)، وبذلك يحيلنا إلى الدراسات البحثيّة التي قام بها أ.د. نادر سراج وتناولت الشعارات والصور، ومدلولاتها، وتأثيرها المباشر وغير المباشر في الجماهير، لا سيّما تلك المتعلّقة بالـ"ربيع العربي"، وبالتالي في فرض واقعٍ سياسيّ مختلف.
 
لكنّ البندر كان مختلفًا عمّن سبقه، من ناحية بناء سرديّته، فقد جعل من أحداث بارزة حجرَ أساس أوهمنا أنّه سيبني عليه بناءً متكاملا واضح المعالم، إلّا أنّه فاجأنا بزعزعة هذا الأساس قبل أن تظهر ملامحه، وإضافة مدماك غير متجانس معه، أبعدنا عن الحدث وأدخلنا في متاهةٍ لا صلة تربطها بحجر الأساس، فبدا بناؤه تجريديًّا، يغلب عليه الأسلوب الساخر المدعّم بعبارات مختارة من المحكيّة، بهدف تسخيف المشهد وتفتيت أجزائه، وكأنّه أراد بذلك أن يرسم صورة كاريكاتوريّة، إمعانًا في التهكّم بواقع الوطن - الغابة أو المزرعة، وحكّامه. ولا يخفى علينا ونحن نتتبّع الأحداث، ولاء الكاتب لطائفته، وتركيزه على محطّات بارزة في تاريخها، كذكره للإمام المغيّب موسى الصدر... وقد غلبت عاطفته، فمالت حينًا دفّتها مندّدة بثورة الجماهير، وحينًا آخر واقفة إلى جانب الشعب المحكوم من النظام المتحالف مع الدول الكبرى.
 
لا يمكننا أن ننكر على محمّد البندر قدرته على توزيع الأدوار على الحيوانات، ومعرفته الواسعة بأسمائها، وأنماط عيشها، وأصواتها... فقد كان بارعًا في توظيفها بطريقةٍ تخدم الفكرة التي أراد أن يوصلها. كما أظهر اهتمامًا بألوان الطعام وطُرُق تحضيره، مبتكرًا أصنافًا جديدة من الأطعمة اختار مكوّناتها من رؤوس بعض الحشرات وأعضائها، مازجًا بينها بفنٍّ وحرفيّة، وإن بالغ أحيانًا في التوقّف عند هذا الأمر. كما نجح في نقل مشهديّة التواصل الجنسيّ بين الحيوانات، بعدما منحها عقولًا بشريةً تفكّر وتخطّط، غير عابئ بما قد يرافقها من صورٍ تبدو حينًا مثيرة وحينًا آخر مقزّزة. وهنا نتساءل عن سبب تسخير البندر موهبته الكبيرة لبناء عملٍ قد يبدو مكرّرًا، من ناحية وضعه على ألسنة الحيوانات، في وقت كان بإمكانه ابتكارُ عملٍ فنّيّ ينبع من نفسِ شاعر عرفناه وأحببنا قصائده المفعمة بالوفاء والصفاء والنقاء.
 
قد تبدو رواية "رئيس الصدفة" للإعلاميّ والكاتب محمّد البندر مرتجلة، مع ذلك هي تؤكّد أنّه يتمتّع بنفَس روائيّ وقدرة كبيرة على الابتكار؛ فنأمل أن يعقبه إصدار جديد له، يضيء من خلاله، ربّما، على ما في عالمنا من جمال، فيمنحنا الأمل بولادة مجتمع ينعم بالأمان والسلام.
 
الكلمات الدالة

الأكثر قراءة

لبنان 12/4/2024 10:55:00 AM
قررت محكمة فرنسية في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وضع نهاية في 6 كانون الاول (ديسمبر) الجاري لأكثر من 40 عاما أمضاها لبناني اسمه جورج ابراهيم عبدالله في سجن بمنطقة جبال "البيرينيه" الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا، هو "لانيميزان" البعيد 120 كيلومترا عن مدينة تولوز، والسماح له بمغادرة الأراضي الفرنسية يوم الجمعة المقبل، وقد أصبح عمره 73 عاما.

اقرأ في النهار Premium