بالون أحمر

بالون أحمر
تعبيرية.
Smaller Bigger
منى حمدان
 
جميلةٌ هي النهايات. مرهقة ومؤلمة، وتتطلّب طاقةً وصبراً. لكنها برّاقة. وللنهايات حكاياتها، وأسئلتها، وأمنياتها، وخيباتها، وروائحها.
 
للنهايات رائحة، تماماً كالبيوت. وبين نهايةٍ وأخرى نختبر الحياة آلاف المرات.
 
نعيش الخيبات والابتسامات والحواجز والخيارات. نرقص على الأغنيات كما على السقطات والانتصارات الصغيرة والبكاء الكثير.
 
تتمحور حكاياتنا حول إيجاد سببٍ للنهوض يومياً، والقدرة على مغادرة السرير، ومواجهة العالم بكل شياطينه وأشباحه وأسنانه الحادة، ومشاهدته وهو ينقضّ علينا. وهذا، لطالما كان الروتين اليومي الأقسى.
 
فحاصرني الخوف، كحبيب أو كغريب، لا يهم. المهم أنني اكتشفت أنني لا يمكن العيش تحت ثقله ولا أن أتآلف معه.
 
فأنا عشت مع الأشباح منذ طفولتي، ولا تزال تحيطني وتلاحقني حتى اليوم. ظهرت ليلاً على الجدران بأشكالٍ مخيفة. وفي أحيانٍ كثيرة، تدلّت من السقف وحاولت أن تخنقني. قاومتها أحياناً واستسلمت لها ولرعبها في أحيانٍ كثيرة.
 
أشباحي التي ابتكرت نفسها من خليطٍ من الأفكار الملونة والرمادية في الوقت نفسه، سكنت في عزلتي وشكّلت دائرة أدخل إليها وأخرج منها بشكلٍ مستمر.
وفي كل مرةٍ أنجح في البدء من جديد. أصل إلى قمة رغباتي، ثم أقع فجأةً إلى الأسفل. أسجن نفسي، ثم أُطلقها. أحبها ثم أكرهها، وأحبها من جديد. أشعر بالحرية والقوة. أسترد أنفاسي، وأستكمل بحثي وحلمي.
 
جميلةٌ هي النهايات. مغرية وبرّاقة، لكنها متعبة ومُرهقة ومؤلمة.
 
وأنا تعبت، يحدث أن أتعب. أن أستسلم. أحتاجه ذاك الاستسلام في لحظات العجز الكثيرة التي تنخرني، وحين أشعر بالحياة تنسلّ من روحي.
 
وأحتاجه أكثر في لحظات الموت. حين أشعر به قريباً جداً، ينمو في داخلي، كضبابٍ يتشكّل وينسلّ صعوداً حتى يستكين ألماً في قلبي.
 
فهل يمكن التعافي من الموت؟ ومن أين تأتي كل هذه الدموع والضحكات؟ وكيف يمكن للفراغ أن يكون مؤلماً جداً هكذا؟ وهل يمكن لهذه الرحلة أن تكون خاليةً من أي مغزى سوى القلق الذي يرادف حياتنا ويومياتنا؟ وهل سأنجح يوماً ما في امتلاك فراغي؟
 
لطالما اعتقدت أن إيجاد إجاباتٍ عن أسئلتي سيشعرني بالأمان، ويسكت الأصوات والأفكار التي تعبث في عقلي، وتقف في صفٍ طويلٍ تنتظرني لالتقاطها. أنجح أحياناً وأفشل في أحيانٍ أخرى، إلا أن القلق يأبى مفارقتي. يعيش معي يومياتي، ولا يترك لي خياراً سوى الاستسلام أمام هذا العدم.
 
ويحدث كثيراً أن أبتسم في وجه هذا القلق، والخوف والألم، في وجه كومةٍ من الأدوية، تساعدني على التعايش مع "اضطراباتي النفسية"، ولكل واحدٍ منهم قصة نشأت معي.
 
لم أعد أملك غيرها تلك الابتسامة. أواجه بها موتي البطيء الذي يحاصرني من كل الجهات.
 
فأنا لن يقتلني المرض، بل سأموت اختناقاً بالملل والانتظار وأنا أقف وأتفرّج. أراقب هدوءه المخادع وهو يتأهب لابتلاعي، وأرضى بالتلاشي.
 
ويحدث أيضاً أن أشعر برغبةٍ قويةٍ في الاستسلام إلى سباتٍ عميق. أراقب دخان البخور في الغرفة، يخرج من العود ناشراً خطوطه حولي. أحسده. أحسد الدخان على خفته، على قدرته على التبخر من غير مقاومة، أشاهده وهو يؤدي عرضه الأخير، وأسمع صوتاً يردد في أذني: "تنفّسي واحلمي كثيراً!". فأنا أخاف أن أموت إن لم أملك حلماً.
 
لكنني في أحيانٍ كثيرة أضحك كثيراً كطفلةٍ صغيرةٍ تكتشف العالم ببراءة. أطارد ألواناً كثيرة، وأركض خلف بالونٍ أحمر أختبئ داخله.
 
أذكر جيداً المرة الأولى التي تخيلت نفسي فيها مختبئةً داخل بالون أحمر يطير بحرية. وأذكر جيداً شعور الراحة والتوق إلى استرداد نفسي وحريتي الذي منحتني إياه هذه التجربة الأولى.
 
وحتى اليوم، لا يزال بالوني موجوداً، ألجأ إليه كلما ضاقت بي سبل البحث عن سعاداتي الصغيرة واختلاسها.
 
لكن ما ميّز التجربة الأولى، أن أسئلةً كثيرةً تزاحمت داخل عقلي يومها. لم أستوعبها جميعها، إلا أنني فهمت ما كانت تحاول أن تخبرني به بعد وقت.
 
ومنذ ذلك اليوم باتت روحي هائمة داخل البالون، محاطة بأسئلة لم أجرؤ يوماً على التفكير في طرحها بيني وبين نفسي حتى. لكنها أجبرتني على الاستماع إلى أسئلتها الكثيرة، التي لم تهدأ.
 
فبدأتُ رحلةً طويلة، لم أكن أعرف ماهيتها الحقيقية، ولا حدودها غير المنطقية، بحثاً عن إجابات. وكانت فعلاً رحلةً قاسية ومُنهِكة، كأنني مشيت طريق كل تلك السنوات حافية.
 
حينها فقط قررت أن أعيش المغامرة، وأن أقفز إلى الحياة بكل قوّتي، وأعيد اكتشاف نفسي وتعريفها. فكل تلك الخيبات المتراكمة والمتتالية هي التي ساهمت في تشكيلي، هي سبب كل ما أنا عليه اليوم، جيداً كان أو سيئاً.
 
ووقفت وحدي عند حافة العالم لسنواتٍ طويلة، لملمت ما تساقط من روحي. وحملت ما بقي من غبار بداياتي ونهاياتي لأطارد أحلامي وأوهامي وحريتي وقلقي الدائم.
 
جميلة هي النهايات. ربما تشي بالموت، وربما تكون مخادعة وزائفة في بعض الأحيان، لكنها ليست بالضرورة مرادفة لليأس بل للفرح والحرية في أحيانٍ كثيرة!
 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/15/2025 3:17:00 PM
طائرة مستأجرة تضم فلسطينيين تختفي عن الأنظار ثم تهبط فجأة في جوهانسبرغ بظروف غامضة.
النهار تتحقق 11/15/2025 9:19:00 AM
"تقول السلطات إن الأمر كله مرتبط برجل واحد متهم...". ماذا عرفنا عن هذا الموضوع؟  
تركيا 11/16/2025 6:11:00 AM
كان أفراد العائلة أصيبوا بتوعّك الأربعاء بعد تناولهم أطعمة من باعة متجوّلين