الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مظلّة منسية

المصدر: "النهار"
وجوه منسية (تعبيرية).
وجوه منسية (تعبيرية).
A+ A-
 
رزان نعيم المغربي- كاتبة ليبية مقيمة في هولندا
 
الطقس ممطر وعاصف قليلاً، لكنكِ قررت الخروج متجهة إلى المقهى القريب من البيت، حيث تعمل زميلتك في الدراسة وشريكتك في السكن، حملتِ كراسة الرسم وأقلاماً خشبية ملونة استقرت في حقيبة على ظهرك. تشعرين بحاجة إلى تغيير مزاجك، في مكان مريح، في المقهى الوحيد الذي تستمتعينَ بالبقاء فيه لمدة طويلة، صديقتك تعمل فيه بدوام مسائي، تمنحك معاملة خاصة، وإذا كان العمل خفيفاً تقترب منك وتتحدثان في بعض الأحيان. 
 
هذا المساء كان الرواد أقل من المعتاد، جلست في زاوية المقهى قريباً من النافذة مكانك المفضل، من خلالها يمكنك تأمل المزيد من الأشخاص وهم يترجلون من الحافلة في الطرف المقابل، يعبرون ممر المشاة بسرعة، بعضهم لا يحمل مظلة لكنه يمسك بقبعته حتى لا تطير من شدة الريح، فجأة تهدأ العاصفة يتوقف المطر، هدوء المكان يجعل أفكارك أكثر صخباً، تتحايلين عليها بتشتيتها مجدداً، ترسمين اسكتشات صغيرة، فنجان قهوة، كأس ماء، على رغم الإضاءة الخافتة إلا أنك تشعرين براحة أكبر، صار هدفك الخروج من ضجيج الذكريات، فشلك في علاقتك الأخيرة، بحثك عن عمل أفضل إلى جانب دراستك الجامعية العليا، في مدينة غريبة عنك. 
 
تأتيك صديقتك بفنجان من الأعشاب المفضلة، المقهى يقدم بعض الوجبات الخفيفة فهو الوحيد الذي يعمل حتى ساعات متأخرة، روائح شهية تأتي كلما طلب أحدهم وجبة تفوح منها رائحة البهارات القوية من الفطائر المحلاة، بعضهم يفضل معها شراب القيقب، وآخرون يرشون السكر الناعم عليها، لكنها مخبوزة بزبدة طبيعية تختلط رائحتها الشهية برائحة القرفة المتصاعدة من فطائر أخرى ساخنة .يَعِنُّ لك طلب بعض منها لتحمليها معك إلى البيت، وتكتفين الآن برسم تلك الأطباق مع بقايا الفطائر وفناجين القهوة . 
لا أحد يطيل الجلوس إلا بعض من دخل المقهى يحتمي من المطر، أو امرأة تشعر بالوحدة، وقررت تزجية الوقت بمراقبة أشخاص بجوار النافذة كما تفعلين الآن، ثم تلعبين لعبة التخمين، هذا الشاب الذي ترجل من الحافلة سيدخل المقهى ويدفع الباب، يخيب ظنك ويتابع سيره وينعطف باتجاه غير مرئي، ثم تراهنين على شخص آخر، وهكذا لم تربحي رهانك ولا مرة خلال ساعة من الوقت، كل الذين دخلوا المقهى لم يكن واحد منهم في مرمى نظرك. تكتبين فوق اسكتش صحن الفطائر- مازلنا ننظر إلى الحياة كما نريد نحن، وليس كما تبدو في الحقيقة - قبل أن تسحبك الفكرة مجدداً مشتتة انتباهك عن تأمل المارة، تضع لك صديقتك كأس ماء على الطاولة، تلمّح لك لموعد الدواء، في حقيبتك الصغيرة علبة دائرية صغيرة فيها ثلاثة أنواع من الأدوية، تبتلعينها بخفة مع رشفة ماء، فيما تبتعد صديقتك النادلة لتكمل عملها. 
 
تعلمت أيضاً كيف تعتنين بروحك، كيف تخرجين الوحش الذي حاول استلاب أيامك وأحلى سنوات العمر، عندما أتيت إلى هذه البلاد برغبة حقيقية للدراسة، كنت غافلة تماماً أن داخلك يغلي بكل ما أدرت له ظهرك، حتى وصلت إلى يوم عاصف، جرّدك من أحلامك وطموحك، أحالك خرقة قماش مرمية على طرف السرير، كنت محظوظة بأنك في بلاد تهتم لهشاشة إنسان قادم من بلد أنهكتها الحرب وأصوات الرصاص، كانت المعالجة النفسية، تنصحك كثيراً بالاستماع إلى صوت الماء يتساقط بقوة من مرش الحمام، ولحسن الحظ الأمطار هنا غزيرة، وأصبحت تنظرين إلى السماء الرمادية بإيجابية أكثر، كلما أمطرت منحتك جلسة علاج مجانية. 
 
تعودين للكراسة، لرسم مدخل المقهى المعلق فوقه أجراس تحدث رنيناً كلما دخل أحدهم، في تلك اللحظة يندفع الباب محدثاً صوتاً يشبه صوت أبواق خفيفة يتردد صداها في المكان، كان شاباً وسيماً معطفه مبلل، ولا يعتمر قبعة، وشعره الأجعد تبلل وتكتل، زاده إطلالة مميزة، حاملاً حقيبة صغيرة، وتقدم مسرعاً، جلس إلى نفس مقعدك الطويل في الزاوية المقابلة بطاولة منفصلة عن طاولتك، كان المقهى مصمماً على توزيع الكراسي العريضة، الثابتة، تتوسطها الطاولات حرة وتقابلها كراسٍ منفردة.
 
توقف حماسك للرسم، متأملة القادم بعينيْن فضوليتَيْن، وهو يفتح جهاز الكمبيوتر الصغير، ويبدأ بطباعة أشياء بكثير من الانتباه لما يفعله، وطلب فنجان شاي بنكهة القرنفل الحار، خمنت أنه يكتب قصيدة، خطرت له وهو في طريقه إلى هنا، استولى عليك الفضول تماماً، وهو غارق في تحريك أصابعه فوق لوحة المفاتيح، كنت تنظرين إلى ملامحه من جانب واحد، شكله مثالي ليكون مشروع اسكتش جديد. عاد الحماس للرسم، لكن مشاعرك كلها مأخوذة في إعداد حيلة واكتشاف ما يفعله، في هذه اللحظة تخللت أصابع يده شعره المبلل، تسللت رائحة عطره، شعره المندى بقطرات المطر كأنه عشب قص لتوه فأمطرت السماء عليه، نادراً ما تقعين في الحب من أول نظرة، تعللين الأمر لتأثير السيروتينين في حبة الدواء، ربما أطلقت مشاعرك دفعة واحدة للمرح. 
 
كانت حقيبته في المساحة الممتدة بينك وبينه على مقعد متصل، حينما امتدت يده من جديد تبحث عن شيء ما فيها، وهو منشغل بالنظر إلى شاشة الجهاز، انزلقت الحقيبة، وطار قلم وصار قريباً منك أسفل طاولتك، سبقتيه في الانحناء والتقاطه، وقف قريباً منك لمح رسمك على الأوراق، أبدى إعجابه على الفور وهو يتناول القلم: أنت فنانة إذاً؟ لا، لا، الرسم هواية، لكني أدرس تصميم الأزياء وضمنها الرسم بالطبع. لم تفوتي الفرصة وسألتِه على الفور: أنت كاتب؟ هزّ رأسه نافياً، وأزاح جهازه بشكل مائل، كانت هناك رسوم توضيحية لجسور وقنوات مائية، أخبرك بأنه أتى إلى هذه البلاد التي اشتهرت ببناء الجسور ليكمل مشروعه الدراسي في الهندسة.
 
كان الحوار لطيفاً بينكما، غريبان في مقهى صديقتك، لكن الوقت تأخر وبدأ يغادر الرواد المقهى، لمحت على جه صديقتك تلك الابتسامة الغامضة، كأنما تريد أن تصلك رسالة ما، بأنها تمنحك مزيداً من الوقت قبل أن تستعد لإغلاق الأبواب، أخيراً خرجتما. توقف تحت مظلة المقهى محتمياً من رذاذ المطر الذي عاد مجدداً، عرضت عليه مظلتك، صديقتك في الداخل مستعدة لكل الظروف خرجت تحمل مظلة نسيها أحدهم في المقهى، كان يشعر بالامتنان، ولديه رغبة في مواصلة الكلام، بينما صديقتك تخطو باتجاه البيت، مد يده ببطاقة عليها رقم هاتفه واسمه، ابتسمت وقدمت الشكر له فهو لا يعلم، أنك لست من هواة كتابة الرسالة النصية وتبادل الاتصالات، وبعد دقائق سيتغير مزاجك وتنسين، مضى بالاتجاه المعاكس، بينما أسرعت تلتحقين بصديقتك، اقتربت منها تبادلتما النظرات، تلك النظرة التي تتبعها ضحكة عالية، كنتما متفاهمتيْن تماماً، لا حاجة لتقول لك: أظنه سينتظر طويلاً ليتلقى منك اتصالاً! 

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم