الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

بوّابة الرياض في لوحة شوقي دلال... الأنس في المدينة

المصدر: "النهار"
بوّابة الرياض في لوحة شوقي دلال.
بوّابة الرياض في لوحة شوقي دلال.
A+ A-
الدكتور شوقي أبو لطيف، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة
 
 
حين تتشابك الألوان في الأرض الرمليّة، تستفيق الرؤى وتزدهي الطوالع، وتبدو المشاعر سائرة الى الحريّة، إن من حيث الوهج الحرير، وإن من حيث الامتداد القرير، فالشمس تلاصق وجدان الريشة المبدعة، والرمال تزركش أشعّتها بداكن من الأصفر الغابر، الملوّح كنباتٍ ضوئي، يتبدّى مثل الأهلّة على سعف النخيل، ومثل الجمان على ثماره العنقوديّة المتلألئة في مرائي الواحة النجديّة الهانئة، إذ يتلامح البريق بأباريق التائقين الى وحي أثيل، يقترن بفصحى الأعاريب وقد أفاقت على نبوءة تصدّي من بني إسماعيل في أرض عدنان، قرآن كتاب يسطّر ما أوحى به الله من أنوار هديٍ، وقسطاس عدلٍ، وميزانٍ وإنسان.
 
لقد حبا الله المملكة العربيّة السعوديّة بهذا الأنس الفريد من صفو الفطرة وزهو الأديم، حيث يتكوّر الضوء كأنّما الشمس تختال على الرمال، في بزغة فجر أو في زفّة غروب. ذلك أن الجمال في نجدٍ، كما في الحجاز، هو نتاج ملامس الشمس على المطارح الجذلى، بمَدَرٍ يترامى خلف سراب النظر، فتعتّقه كما لو أنّة صِنْجٌ نحاسي موشّى بمسحة سمراء، من وجه بيداء وهّاجة بدفءٍ بعيدٍ سحيق، ومواسق شِعرٍ تتردّد في آذان الزمان، لتؤذن بانبثاقة الكَلِمِ منثوراً على المدائن، التي ارتفعت بصبرٍ حنظليٍّ ونهجٍ حنبلي.
 
ولقد أيقظ الفنّان شوقي دلال، في لوحته "بوّابة الرياض"، ذكريات حميمة في مملكة الخير تعود الى عقودٍ خلت في العاصمة الرياض الزاهرة. بيد أنّ ما يلفت في هذه اللوحة هو هذا المزيج في اللون الفيروزجي، المسكوب بنور الشمس وزرقة السماء وحمرة الغبار الصحراوي، الذي يحيط بأجواء المدينة، ليدلّل الى زمانٍ كان الأثير فيه يقترب من الأديم، فتبدو وحدة الطبيعة جليّة بين العمارة الطينيّة، التي تحمل في مواد بنائها الرمال والقصب، وبين عَدْوِ الرياح. ويتبيّن في الصورة أن المزيج اللّوني الممهور بريشة دلال يدخل الى اللوحة من مخيّلة خلاّقة، لا ريب أنّها متطابقة مع الرؤية الى الواقعة التصويريّة التي تبدو للعين الرائية، كما لو أنّها تستعيد المشهد من زمنه المنصرم، بالمشهديّة الحسيّة والنفسيّة في آن. وهنا يبرع الفنّان في تشكيل ظلالٍ مهيبة، في الفناء الخارجي للبوّابة، تظهر للرائي رماديّاتٌ تنمزج فيها أشعّة الشمس ببقايا مواطرَ، ارتسمت فيها علائم مكوثٍ مؤقّت أو ترحالٍ قريب، ومن ثمّ فإن ما يصبغ البوّابة نفسها، من تعتيق يندغم فيه الضوء بالظلال، لا يقتصر، في البوابة، على الوظيفة الحاجبة لما خلفها، إنّما يمتدّ ليدلّل الى وجهٍ صقلته الصحراء فاكتنز السّعة التي تمتاز بها، والبادية في امتداد الوجه طوليّاً والتصاقه بسطح الأديم، ومن ثمّ بفمٍ يزخرُ ببأسٍ عميق، على أنّ العين التي يتسلّل الى قرنيّتها حاجب رمحي، كأنّما هي مُشخصة من باب التأمّل، الى فتحة أنفٍ تَسْتنْشقُ عزّةُ الباني نوراً منها، كي يتسرّب ذات اليمين وذات اليسار، لكأنّما تتناغم والنور أصداء الصنوج التي تهلّل للضيوف سلاماً على جانبي البوّابة، على أن ما فوق الرتاجِ يشي بأن الفتحات لا تعدو أن تكون مسارب للهواء والضوء.
 
أما البرانق المُسَوِّرةُ للسطح الأعلى من البوّابة، فإنها لتوحي بما تنعم به ديار الإسلام من دور عبادةٍ وتقوى وسانحات سلام. على أنّ تقنيّات الرسم تبدو مذهلة في هذه الأبعاد الهندسيّة، التي توائم ما بين البناء الرئيسي للبوّابة وما يظهر من ظلال يتحدّد معها الزمان الآني للمشهد، وآثار للطبيعة عليها في الطوب والكسوة الترابيّة. على أن ما يحيط بالمبنى الرئيسي من ملاحق وأسوار، إنّما يكشف لنا عن قدرة الفنّان في استحضار ما يكتنف أهل المدينة النجديّة من حكمة التواري وحنكة الدراية، واللتين إنّما تبدوان جليّتين في نافذتي الضوء يسار اللوحة، وهما ترمقان الخلاء على حين سكونٍ ودِعة. أمّا ما يظهر من بقعة أثيريّة يمين اللوحة ما بين البوّابة والسور الخارجي من جهة وسور قصيٍّ من جهة أخرى، تظهر فيه خطوطٌ متكسّرة في تنقّل هدهدي وأشباهُ سَوارٍ للسفن، إنّما هما دلالة الى السفر الروحي البعيد في مكامن السماحة التي تتفتّق معها الأسوار لتنفتح على مجتليات الوحي النبوي، الذي أنجب في الضّاد أروع ما جادت به العرب.
 
أمّا وقد أعادت بي اللوحة الذاكرة الى ما يزيد على ثلاثة عقود في الرياض، حيث المدينة التي تجمع في أحيائها القديمة والجديدة طُرُزاً معماريّة ممتعة للنظر من حيث الشكل مثلّثات ومربّعات ومسدّسات، ومن حيث اللون الأبيض والرمادي والألوان الزاهية الاخرى، والموازاة الأفقيّة والإرتفاعيّة المُعتمدة في تنظيمها المُدني، فإنّك لتأنس في المدينة المخطّطة بإحكام والمُحاطة بخط سير دائري سريع الى ما تبقّى من محاكاة، في بعض الأحياء، لصورة البوّابة التراثيّة، التي أبدعتها ريشة دلال، في ما يحيط بدارة الملك عبد العزيز، في حي الناصريّة، وبما يتراءى للناظر من "ظهور البديعة"، ومستشفى الملك سلمان، الى وادي "أبو لبن"، وبما تجده من معالم تراثيّة في أحياء "الشفا" و"السويدي" و"منفوحة" و"البطحا" و"الديرة".
 
ولقد أبقى السعوديون على التراث في قصورهم المنيفة، حيث ألحقوا بها بيوت الشعر، ومواقد ضيافة القهوة العربيّة التقليديّة، المعبّرة عن عادات الكرم والأصالة، أضف الى ذلك تواضعاً وتقوى ناجمين عن تديّن حقيقي وتربية إسلاميّة سمحاء. أقاموا سُبُل الماء خارج أسوار البيوت لإرواء عطش العابرين من مياهٍ باردة عذبة، ولقد عرف تراثهم قبل ذلك جرارٍ فخّارية مفتوحة لحفظ الماء وتبريده، يضيفون إليه ماء الورد، و"الطّاسة" المعقودة بزرد أو بخيط من "المصّيص"، وتزدهي جرار حدائقهم بالورود وبأشجارٍ باسقة، وتمتلئ جزر الشوارع الرئيسيّة بنباتاتً عطريّة رائعة، وبأشجار النخيل المثمرة التي تنادي الراغب للإقتراب منها والقطاف، ولا تنسَ الإفطارات الرمضانيّة السخيّة وولائم أيّام الجمعة من كلّ اسبوع التي يقيمها فاعلو الخير، وفاتحو أبواب البيوت على مصراعيها لكل قريب أو غريب من أجل تناول ما لذّ وطاب من الإطعمة السعوديّة المميّزة، دون أن يخامر الضيوف، من فقراء أو عمال أو أصدقاء أو عابري سبيل، أيّما ريبٍ في صفاء الينبوع من ماء وجهً أو جود وجود.
 
 
ويبقى للرياض سحرها في المساكب الحرّى، والنسائم المرفرفة على الحزام الأخضر حول المدينة، وفي منطقة "الخرج" حيث الحدائق الغنّاء والمزارع ذات الجنى الوفير، على أن هيبة "قصر اليمامة"، والمتسّعات الرحيبة لجامعة الملك سعود، والحي الديبلوماسي ومستشفى الملك فيصل التخصّصي، لهي دلالات الى ما يُدّخر خلف بوّبة الرياض من تحضّرٍ يقترن بوعي فسيح الامتداد، من "الجنادريّة" حيث المهرجان التراثي السنوي البى أحياء النسيم والنظيم والروضة حيث مكتبة الملك عبدالله، والربوة، فإلى المرسلات والمغرّزات والسليمانيّة، وحي العُليّا حيث مكتبة الملك فهد.
 
لقد أيقظت لوحة الصديق الفنّان شوقي دلال حنيناً الى الرياض، المدينة العربيّة الرائعة، التي كان لي حظ الإقامة فيها على مدى عقدٍ ونيّف من الزمن، حيث آنست تلك المدينة قلوب اللبنانيين المقيمين فيها منذ أن تحط الطائرة في مطار الملك خالد الدولي، بكثير من الخير والمحبّة والرعاية، لطالما لمسناها في ما كان يعبّر عنه الأخوة السعوديون من إعجاب واحترام وتعاطف مع لبنان الأخضر، بطبيعته وفنونه الجميلة، وإنسانه المبدع، الذي أسهم في بناء المملكة من بواّبة الرياض، التي دخل منها كل من فؤاد حمزة، ونجيب صالحة، ورفيق الحريري الى ذروة الإبداع في الأعمال، على أن ما قدّمه الفنّان وجيه نحلة من منمنمات حروفيّة في اللوحة التشكيليّة العربيّة، وما قدّمه الفنان عارف الريّس من أعمال فنيّة تتّخذ مواقع لافتة في وسط مدينة الرياض، ليُستَكمل اليوم في ما تبدعه الريشة الشقدلاليّة من منمنمات بلغة البيد ومن سكوبٍ جمالي على أمداء نجد، ومسارح الظباء البِيض في الواحات النضرة من جزيرة العرب.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم