علي حمدان
كان إدريس جمّاع في رحلة علاجية في بريطانيا حيث افتُتن بعيني ممرضته وعبّر لها عن ذلك مراراً، لكن بصمت، لعدم إتقانه الغزل بالإنكليزية، فآكتفى الشاعر السوداني بالتحديق بها طوال الوقت كلما دخلت غرفته لمتابعة حالته الصحية مما أثار سخط الشابة التي اشتكت سلوك مريضها الغريب الى مدير القسم، فأوصاها بلبس نظارة ذات عدسات سوداء خلال مكوثها في غرفة جمّاع، فكتب فيها الأخير بعد رؤيتها بمقلتين خبيأتين البيت التالي:
السيف في الغمد لا تُخشى مضاربه
وسيف عينيك في الحالتين بتّار

للندن البريطانية عينيها البتّارة ولمشغرة اللبنانية قمرها الذي غنته فيروز؛ مروى بيز.
يطاردني شريط افتراضي أحمر أسفل المشهد أينما تجولت في بيروت كخبر عاجل مفاده أن نزار قباني كان مخطئاً حين وصف مدينتي بـ "ست الدنيا". فبيروت سلبت نزار بلقيسه، والقهر المعتّق قهوة هنا، لكن "أعذب الشعر أكذبه"، ما أصدق هذه المقولة.
بئس مدينة لا يستوقفك فيها سوى شرطي سير. "أهم شي الصحة"، غالباً ما نعزي أنفسنا بتردادها، ولو أدركنا معنى العبارة هذه حقاً لما تذمرنا من هذه المدينة ولا من زحمة السير فيها، ولا من صراخ الأطفال في الباحة الخلفية للمنزل، أو من رسومات شالي إيبدو وفساد الموظف الحكومي وثرثرة سائق السرفيس وغيرها. لو أدركنا معناها حقاً لسعدنا لمجرد قدرتنا على التسكع في الأسواق بين باعة التوابل والخضر من دون اضطرارنا للجلوس كل ما تسارعت نبضاتنا أو أعيانا هبوط حاد في ضغط الدم أو مستوى السكر. "اسعد يا بغل"؛ كلماتٌ ثلاث واساني رافاييلو بها، عجوز الحارة التي كنت أقطنها خلال فترة الدراسة في إيطاليا، بعد تذمري له من راتبي وظروفي المالية الصعبة وقتذاك. يعلم الإيطاليون جيداً قيمة الوقت، لذلك تجدهم يستثمرونه بالحديث بصوت مرتفع وتناول الباستا والضحكات الرقيعات، "اسعد بالمتاح" قال لي، وهذا ما سعيت له من ذلك الحين، فبغض النظر عن كل ما نعايشه إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً وصحياً ونفسياً في لبنان، لا بد لنا أن نسعد بالمتاح، فخوسيه ساراماغو نسج روايته الشهيرة "العمى" حول العمى الذي يتحول الى وباء يجتاح المدينة ويؤدي الى انهيارها صحياً وأمنياً واجتماعياً وسياساً تباعاً، لتنتهي بانتهاء نظام الحكم فيها وكل تفاصيل الحياة والقوانين والأعراف والنمط المعيشي الذي كان سائداً قبل التفشي، ليبدأ من تبقّى من سكان حياة جديدة بكل ما للكلمة من معنى معيدين تعريف كل شيء، مبيحين محظور لطالما كان مُشتهى وحاظرين ما كان مباحاً بالإكراه. لعل كورونا يفضي الى ما أفضى إليه وباء ساراماغو، فيتبدد هذا الهراء المقيت ونبدأ ببناء هراء آخر، هراء مٌحبّب.

الصحة أم النعم، والصحة أهم من الحرية والصحة أهم من الثورة وأهم من الوطن، لذا مروى بيز ابنة مشغرة هي سيدة هذا الوطن الأولى وشخصية العام بلا منازع، كيف لا وهي الممرضة التي مكثت مع مريض مصاب بكورونا في مستشفى بلدتها الحكومي لأكثر من أربع ساعات في غرفة غير مجهزة بتقنية الضغط السلبي والتي غالباً ما تُعتمد في أقسام معالجة الأوبئة للحد من تكاثر الرذاذ الملوث في أجواء الغرف وتعريض الكادر الطبي للمخاطر، "لم أكن بكامل لباسي الواقي حين تدهورت حالة المريض فجأة فور وصولي الى المستشفى" تقول مروى لـ"النهار"، "حاسس حالي عم اختنق، بدي اتنفس الله يخليكن"، كانت هذه كلمات الرجل الستيني، بحسب مروى، لدى دخولها الى غرفته ومباشرتها بإنعاشه من الذبحة القلبية التي ألمت به بالتزامن مع تمكّن الفيروس التاجي من أنفاسه. "ما خفت ع حالي، كنت خايفة عليه يموت بين إيديي" تقول مروى مستغرقة في تفاصيل الساعات التي أمضتها مع المريض في الغرفة بالتنسيق مع الأطباء هاتفياً وإجراء الفحوص اللازمة له وتمسيد ظهره وتزويده بالأدوية المناسبة الى حين إستقرت حالته.
"لقد عرفت من خلال هذه الحادثة قيمتي كممرضة، فرحتي بنفسي ضاهت فرحتي بنجاته، فإمكاناتنا محدودة جداً لكننا بالرغم من ذلك استطعنا مساعدة الكثير من مرضانا"، تختتم مروى التي عادت لمزاولة عملها في المستشفى بعد 8 أيام من إصابتها بالفيروس داعية الجميع الى الإلتزام بالتعاليم الوقائية لتحاشي المرض والمعاناة.
من جهته، أشاد الدكتور عباس رضا، مدير مستشفى مشغرة الحكومي بمروى "الهادئة"، بحسب تعبيره، في قسم يعاني فيه المرضى من تدهور سريع غالباً، "الهادئة بحكمة"، يقول دكتور رضا الذي تحدث لنا عن الحزن الذي انتابه لحظة إبلاغه بنتيجة فحصها الإيجابية، "مروى كانت طالبة مني إجازة كذا مرة مشان تتزوج وكنت عم أجلها بسبب الظروف، خفت كتير يصرلا شي لا سمح الله وما نفرح فيا، خفت كون سبب عدم فرحتا"، يسهب الدكتور في حديثه عن مروى بغصة وفخر، مثنياً على روحها الفيّاضة بالتفاؤل والفرح الذين يعمّان قسم العناية بالمصابين بكورونا خلال ساعات تواجدها.
قد يحاصرنا العدم في أيامنا الآتية، وقد نلتهم أمهاتنا جوعاً إذا ما تم رفع الدعم، وقد يغرد صحفي طيّب عن عظمة شعبنا وإقباله على الحياة، مرفقاً تغريدته بمقطع فيديو لوجوه منسية ضاحكة وأرداف تهتز على وقع أغنية تافهة في احدى السهرات. انه سيناريو معلوك، وحده سيناريو مروى المحبوك، والمحبوك جيداً، فقد بلغت الشابة في عشرينها حكمة لم يصلها حكامنا في مشيبهم. مروى تحملت مسؤوليتها تجاه مجتمعها وبذلت نفسها من أجل الصالح العام حين تخلى فشَلة البلاد المتكرشون والمترفون عن شعب بأكمله. لقد أدى الطاعون الى نهضة الإنسان في القرن السادس عشر بعدما تسلل الموت الى كل منزل، فأدرك الناجون حينها أن السعد يكمن في مجرد أنهم أحياء، وشرعوا في التعبير عن فرح البقاء في إبداعات معمارية وفنية وأدبية وفلسفية وغيرها، لعلنا ننهض بعد كورونا ونخرج من هذا النفق بالمزيد من مروى في بيوتاتنا وأحيائنا ومستشفياتنا وصحفنا ومؤسساتنا وبرلماناتنا وحكوماتنا وبلدياتنا وأينما يقع النظر. "لا وقت للحزن"، كانت هذه العبارة الأخيرة التي شاركها الدكتور في علم النفس فاسيلي بوجي قبل مغادرتنا متأثراً بالفيروس اللعين. لا وقت للحزن ما دامت في بلادي مروى ومثيلاتها.