الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

على طريقة فلاح داوود أبو جودة

المصدر: "النهار"
غلاف الكتاب.
غلاف الكتاب.
A+ A-
يوسف طراد
 
حملتنا حقيقة أسطورة لبنان أيام البحبوحة على أجنحة الخيال، وحطّت بنا على صفحات كتاب "طمِّنونا عنكم" لفلاح أبو جودة. فكان الكاتب "شهرزاد" الحكايا، ولم يكن القارئ "شهريار" الشّرير، لأنّه لم ولن يستطيعَ قراءة هذه المقالات إلّا بعين قلب.
 
أسهب أبو جودة، واتّبع السّهولة، ولم يطنب في السّرد، حين نقل إلينا بأسلوب محبّب ومباشر أخباراً تتشابه مع أخبار القرى في الريف اللّبناني. تاركاً لقلمه الخوض في غمار ماضٍ جميل، وحاضرٍ افتراضيٍّ من دون قيد.
 
كيف لنا أن نلفظ اسمه صحيحاً، وهذا الاسم نادرٌ في لبنان؟ وفي كلّ مرة نقرأه تخطر على بالنا أغنية "حطّ الدّبشة يا صلاح هجموا العالم ع الخضرا" لزياد الرحباني؛ "عانيْتُ ما عانيْتُه من غرابة اسمي، فمنهم من ناداني صلاح ومنهم من ناداني فلّاح مع شدّ اللّام، ومنهم فالح، ونجاح، وكفاح..." (صفحة 7). وكيف لنا أن نكتبه صحيحاً، وقد صحّحته مرّات ومرّات خلال كتابة هذا المقال؟ فرأفة بالقرّاء وبالمرضي الّذين يزورونه في عيادته المختصّة بتقويم الأسنان، يا ليته يقيم دعوى قضائيّة لتغيير اسمه. لكنّه لن يفعل لأنّه يحبّ اسمه، ويستمتع بكلّ نادرة تحصل بسببه. ويا ليت القرّاء يلفظون اسم كتابي "قراءات فلاح" الظاهر على الغلاف مع شدّ اللّام، وقد غفلتُ عن إدراج الشدّة. وفطنتُ للأمر عندما نادتني إحدى السيّدات: كيفك أستاذ فلاح يوسف طراد. فنَسَبَت مقالات الكتاب لاسم كاتبٍ مجهولٍ، وليس للمهنة. فمرحباً بـ"سمييِّ" الافتراضي.
 
كلّ مقال في الكتاب يذكّرنا بنادرة حصلت في أريافنا، فسنورد بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:
 
ضمن مقال "زلمي منشاف" في الصفحة 11 من الكتاب، لم تستطع والدة الكاتب إقناع والده على اكتناف وادي نهر (الجعماني) بين المتن الشمالي والمتن الأعلى، خوفاً عليه من قطّاع الطرق، فكانت نصيحتها التالية: "خلّي محفظتك ملْيانة مصاري، حتى إذا (شلّحوك) ما بَدنا نِتْبَهْدل قِدّام الناس ويقولوا ما طِلِع معو إلّا تْلات ليرات! إنت زلمي منشاف! من مِيِّة ليرة وطْلوع!"؛ ذكّرني هذا المقال بإحدى النوادر التي حصلت بين فلّاح وبيْك، في إحدى القرى المجاورة لقريتنا، عندما خسر البيك شرطاً، ولتنفيذ الشّرط، كان عليه أن يرضخ للفلّاح كي يضع عليه الصند ويحرث الجلّ. وكان يقول له اثناء الحراثة "لزّق يابيْك، شوّر يا بيْك، طلاع يا بيْك، نزال يا بيْك" وكان البيْك مسروراً لأنّ الفلّاح حفظ مقامه بمناداته بيْك عند كلّ تغيير لمساره.
 
وعندما قرأت في الصّفحة 16 من الكتاب، تحت عنوان (غريب في قفص): "ينامُ الغريبُ في المدن البعيدة، يتذكّرُ أهله، وناسه، وبيته، وحضناً يُلقي عليه رأسه، وتراباً يحفظ رائحته عن ظهر قلب، فيحنُّ على نفسه قليلا، وعلى جاره الغريب قليلا، وينامان ويحلمان بأرضهما معاً"، حضرت أمامي قصيدة للشّاعر المغترب "المتريتي"، ردًا على رسالة وصلته من أخته رضا، وهذا مطلعها:
"لا تطمعي بالهجرْ يا أختي رضا/ داب قلبو كلّ مين بلادو هجر
يا ريت بمتريت هالعمر إنقضا/ نايم عا فرشة شوك ومخدّة حجر".
فكم أنّ النوستالجيا متشابهة بين نص الكاتب وقصيدة الشّاعر!
 
ورد في الصّفحة 96 تحت عنوان (الثرثرة الأدبيّة)، وهنا الكلام عن عمّه المرحوم الصّحافي ميشال أبو جودة: "ويروي من حضرَهُ، أنّ ميشال كان يستوحي أفكار مقالاته من الأحاديث الدائرة في هذا الصالون وكانوا يندهشون أحياناً في اليوم التالي، حين يجدون بعض أفكارهم في صلب (حقيبة النهار)"، ذكّرني هذا النص بقول الأديب المختّص بالأدب الريفي، الدكتور ميخائيل مسعود عندما قال لي: "أنت ما سرقت أفكاري أنت استعرتها"، حين قلت له بأنّني استعرت عدة أفكار من أجل مقال. فبالله عليك يا صلاح، عفوًا يا فلاح، قلْ لي كيف أعيدها له؟
 
"عن المثنى في لغتنا" عنوان مقال ورد فيه: "... فهناك (الأخوان): كالأخوين عاصي ومنصور" (صفحة 106). هل أنكّ مصرّ يا فلاح بأنّ هذين المبدعين مثنّى؟ ففي حديث للموسيقار المرحوم إلياس الرحباني قال فيه بما معناه، إن أحد المشاهدين الدمشقيّين الّذين حضروا مسرحية للرحابنة في دمشق، فاجأه بحديثٍ بعد المسرحيّة قائلًا بأنّه قد استمتع بصوت السيدة فيروز "زوجة الأخوين رحباني".
 
إذا كنت يا فلاح قد وثّقت تاريخ مولدك مع صديقك إدمون شبطيني في مقال بعنوان "إدمون"، وكانت ولادتكما بتاريخ ١٧ آذار، فإنّ جدّتي قد وثّقت تاريخ مولدي عندما سألتها متى ولدت؟ فقالت: "أنت ولدت وقت يلي نزل الضبع عا الضيعة" فهل هناك توثيق أدّق من هذا؟
 
امّا عن عنوان الكتاب "طمِّنونا عنكُم"، فسأجيبك بما كان يمليه عليَّ جدّي، حين كنت أكتب له رسائل، فبعد السّلام والكلام كانت الجملة المشتركة بين جميع رسائله: "نحنا مناح ومش ناقصنا إلّا قلّة مشاهدتكم".
 
نقل فلاح أبو جودة، بأمانة وإخلاص، ما كنّا نسمع به، ونحسّه، ونشاهده. فإذا اغتممت من كثرة الضجر، وضاقت نفسك من البقاء في البيت في زمن ارتفاع سعر الوقود، وتاقت إلى حديث سمر، عليك بكتاب "طمِّنونا عنكُم"، فمنه تستسقي أخباراً عن حوادث طريفة حصلت في الماضي القريب الجميل والحاضر المأزوم. فكلامه ومعانيه لها طعم الفرح حتى الثمالة، والكلمة مع فلاح أبو جودة تمارس رقصاً لم نعهدْه من قبل، وتتمايل على إيقاع اللّحظات السّاحرة التي نقلها من دون تصنّع صوراً جميلة إلى درجة الانفعال.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم