جلنار- (رشا ديرية)
عبارة قاسية، مرهقة وتُشعرك حتماً بالإجهاد، جاءت على لسان الكولونيل أركاديو في رواية "مئة عام من العزلة"، حين قال "انتبه إلى قلبك يا أوريليانو. إنك تتعفن حياً". مذ قرأتها قبل سنوات ولها التأثير العميق ذاته. هناك نصوص تستولي على مكان ثابت في عقل القارئ لغزارة معانيها. أما السؤال الأقسى الذي أثارته تلك العبارة، فهو مَن منّا يحيا وهو ليس متعفناً بالمعنى الذي قصده ماركيز، أو ربما أكثر؟
نعيش المعضلات منغمسين فيها بأشكالها الاقتصادية ومن ثم الأخلاقية؛ فليس بالجديد أن ترتبط الأخلاق كتبعية اقتصادية أو حالة حتمية مترتّبة عن التردّي الاقتصادي، كما نشهد يومياً حالات العنف والقمع والقتل على صعيد مجتمعاتنا، أو على الصعيد الدولي. ويضاف إلى كلّ هذا، الحالة الصحّية التي أغرقت العالم بطوفانها مؤخراً، وإن كانت طارئة لكنها أصبحت وتيرة متصاعدة. وليس هناك طرف خيط يدلّنا على نهاية المطاف، فجميعها معطيات تُشرف بطغيان على الحالة الإنسانية، وكأنّ الحياة آلت إلى صراع مكشوف، البقاءُ فيه لمن يتخلّى عن نفسه.
كنت قيد الكتابة وتحت سطوة الأفكار، أحاول دراسة إحدى الشخصيات المستوحاة من التاريخ وأبحث في عمقها لأكتب عنها، فصاحبها ثار على ظلم لحق به وبشعبه. ثم حين جاءته الفرصة ليتسلّم هو السلطة، أصابه مرض السلطة الخبيث وفَتَكَ في خُبث قراراته كمن أشعل ثورة مضادّة على ثورته الأولى. ورافق ذلك تصريحات مستهلكة لمسؤول دوّخ الشباب قبل تسلّمه منصباً هامّاً بخطابات حماسية تنتقد المسؤولين، ثم أصبح يردّد من منصبه الشعارات ذاتها التي كان دائم السخرية منها. حينها دقّت ذاكرتي عبارة ماركيز وشعرت بهؤلاء متعفنين حتى الجذور. فنحن غالباً ما نعتقد أنّ من تعرّض لظلم في حياته، يبقى ليّناً وحليماً وعلى قدر عالٍ من الإنسانية متخذاً ظروفه السابقة مرجعاً لتفهُّم الظلم الواقع على الآخر، بينما ما يحدث هو النقيض. تقتل السلطة حين تُعطى لصاحبها ماضيه، أو تتكئ عليه بحيث يصبح الوصول إلى السلطة قبر الإنسان الأخير ومولد المتسلِّط. وهنا يراوغ التكرار في فرض نفسه ويعيد التاريخ ذاته مراراً في السلم، والحرب، والمرض، والسياسة والقمع، لكن بقوالب مختلفة، ويولد المزيد من الفاسدين ويزداد العالم قُبحاً. وقد اختصر غوته ذلك كلّه في قوله "من لم يتعلّم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقَ فى العتمة"، وفي هذا تفسير عميق لعتمتنا.
ولأنّ الأشياء توجد وقد خلّفَتها أسبابها، فإنّ تعفّن النفس حالة تصلها حين لا تتوفر لها بيئة تحفظها، بحيث يضمر جزء منها ويتعفن. ثم يتصاعد الأمر حين لا تجد علاجاً يحمي ما صلح منها، فيمتدّ الفساد وتنتقل العدوى لا فقط إلى الأجزاء الصالحة منها بل تطال ما حولها، فالفساد حتماً داء معدٍ.
في هذا الضباب الرمادي الكثيف الذي نعيشه حالياً، تزهق الأرواح بأسماء مختلفة بعضها وهميّ وآخر حقيقي وتدفن الإنسانية. ومن يشهدْ ذلك يتلقَّه في صمت بالغ. هناك فاعل أمام شاهد صامت رهين قانون القوة، تماماً كما نشهد الأرواح التي حصدها الوباء والفقر الذي ازدادت معدلاته، والأوطان التي تباع وتُشترى، والاغتيالات المتكررة. وعلى الطرف المقابل نعيش الانتظار، والاستسلام، في مواجهة موجات الفساد وهي تهزّ مناعة الروح فيصبح التعفّن مقبولاً ومتناسقاً مع الحالة العامّة.
كنت قد شاركت قبل أيام على صفحتي على تطبيق "إنستغرام" سؤالاً وجّهته إلى الأصدقاء، كيف يتعفّن الإنسان حياً؟ جميع الإجابات كان فيها مشترك. ما يعني أننا نشعر بأنّ جزءاً منا قد أصابه العفن ولو ضئيلاً، فكثيراً ما نحبس أنفسنا في تفاصيل تجعلنا نتعفّن أحياء دون دراية حقيقية بما آلت إليها أنفسنا...
سأشارك بعضها كما وصلتني:
حين ينعدم الأمل والهدف
حين يقسو القلب
حين يفقد الشغف
حين يتجرد من إنسانيته
حين يموت إحساسه بكلّ ما حوله
حين يعيش ألم الماضي ويتجاهل الحاضر
وعندما يكره.
وأضيف عليها بدوري، الأنانية عفن مقيت، أما المأزق الأكبر الذي نواجهه فهو "النجاة" بما تبقّى منا.