الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

عن الأمهات النعناع

المصدر: "النهار"
الأمّ النعناع.
الأمّ النعناع.
A+ A-
 
كتبت: فاطمة أمين
 
ما إن وطأت قدماي سنّ العشرين، حتى غيّب الموت المفاجئ والدي، في شتاء حمل انفصالاً لم تمهّد له الحياة.
 
وهذا الصيف، رحلت أمي، بسلام في فراشها، بعد أن أضعف المرض قلبها، فجسدها، شيئاً فشيئاً.
 
أفكّر، أمن الأسهل رحيل من نُحب صيفاً؟
 
بعد غياب والدي، انتظرته كلّ شتاء كي يغلق نوافذ البيت في وجه العاصفة. تعرفّت على الموت، وأصبح حاضراً ومُتوقعّاً. بتّ أراقب صدر والدتي أثناء نومها، لأتأكد أنها ما زالت تتنفسّ. لم أرد الموت أن يباغتني مرة أخرى.
 
بدأت أبحث عن والدي في الصور، في الزاروب المفضي إلى البيت، في شوارع بيروت، وفي أكثر من مئة مدينة.
 
بحثت في سريره، سريري، في شجرة الميلاد، صلّيت لكلّ الآلهة طمعاً باتصال، وأشعلت قلبي بخوراً.
 
ووجدته أحياناً. في الغيم، في طيبة سائق التاكسي في بورما، في أبوّة أستاذ أيطالي على متن قطار بين باريس والبندقية... وفي عيون إيلّا.
 
رأيته في كل ضوء، في كلّ برق، وعلى جانح عصفور أحمر زار مائدتي.
طالت رحلة البحث عن والدي أكثر من 15 عاماً، أمّا والدتي، فما إن رحلَت حتّى وجدتُها. 
وجدتُها في شَعري، في الأغاني التي رددناها معاً، في سوار يدها الذي لبسَته ستين عاماً، في وسادة طُرّز عليها "صباح الخير"، في شجرة الكلمنتين التي تلونّت هذا الخريف، في الدوش الساخن، وفي كحل العين الأسود.
 
أراها في فستاني النبيذي، في أواني مطبخها المزخرفة، في الشومر التي نبتت من جديد، في كريم اليد، وفي أفلام الأسود والأبيض.
 
لسنوات، أردت تعلّم الطبخ من والدتي، ولم يتسنَّ لي ذلك لانشغالي الدائم. قبل رحيلها، أمضينا شهرين كاملين في الجبل في منزلي. هناك كان الوقت كله لنا، وقتٌ يُشبه الطفولة، أنمّا كنت أنا من أدير المنزل، أطبخ لها، أصنع الحلويات وأبحث دوماً عمّا يسلّيها. علّمتني إعداد الأطباق التي أحبّ، تلت لي حكاياتها، غنيّنا سوية، شاهدنا الأفلام ورقصنا. ما أنبله من وداع.
 
أجمع كل أوقاتنا في صور، صوتها في تسجيلات، والأفعال في ذاكرتي. أتذكرّ القول الصوفي: "إنما صحبتك لتكون أنت أنا، وأكون أنا أنت".
 
عبثاً أحاول الحصول على مذاق الكاسترد نفسه الذي تعدّه، الطعمة التي تردّني طفلة أمام التلفزيون، تأكل الكاسترد وتشاهد السنافر، في بيتٍ محميّ من الخوف. ما علاقة التذوق بكل هذه الطمأنينة؟
 
أخبرني أحدهم أنّ الإنسان لا يعود طفلاً، ما إن يفقُد أمّه. لا أصدّق مقولته. ما إن أغمض عينيّ، حتى أستحضر والدي يغنّي، وأستحضرني طفلة أرقص له، وتتورّد خدوده فرحاً. أو استحضرني نائمة في حضنه، وأراه مفتخراً لسماعه أنّي حفظت سورة الجمعة.
 
ما إن أغمض عينيّ، حتّى أسمع دندنة أمي لأغنية لشادية أو لناظم الغزالي.
 
أمهّد الأرض لزراعتها في موسم الشتاء. النعناع يمدّ جذوره تحت الأرض وبكلّ الاتجاهات. أنتشل النبتة، إنمّا تبقى جذورها تحت الأرض وتنتشر في كل مكان.
الفول يغذّي التربة، والذكريات تغذّي الروح. أكتب كل ما أتذكّر في دفتري الصغير. هذا إرثي، إضافةً إلى بعض الأقوال التي أردّدها، كما كانت تردّدها أمي.
 
ظننت أنّ الأمهات كالياسمين، خجولات، خفيفات، يهبطن بهدوء دون إحداث جلبة، هكذا كانت سلوى، أمي. إلاّ أنّني أدركت أخيراً أنهن كالنعناع، وإن رحلن جسداً، فهنّ متشعبّات في كل شيء.
 
أعتقد أنّ كلّ أم رحلت تتمنّى من حيث هي لو "تُنزل" ثياب الشتاء لأولادها الآن، لو تشتري لهم قرطاسية المدرسة، تقشّر تفاحة وتقطّعها إلى أربع قطع عصراً، ولو أنّها تغطّيهم بـ "حرام من طاقين" قبل النوم.
 
ليأخذ هذا الحداد اللعين ما شاء من الوقت، ولأظلّ طفلة قدر ما أستطعت. أرسم دائرة، أضعني فيها، أرسم دائرة أخرى وأضعهما فيها، وأرمي كل شيء آخر في دائرة ثالثة. هذا عالمي الجديد.
 
لمن قال، "الجنة تحت أقدام الأمهات"، أقول، بل الجنّة في حضورهنّ.
ولسلوى التي تحبّ الأغاني أقول: أولى بهذا القلب أن يخفقَ.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم