على أكتافِنا قامَتْ

 
كتب نجم الدين خلف الله

اخترقتُ السوقَ الشعبيَّ مُتَسلّلاً بين البَسْطات التي انتَشَرتْ يَمينًا وشِمالاً. أثناء سيْري الحثيثِ، تحاشيتُ أكداسَ الثِّياب المُستعمَلة وأدوات البلاستيك وبضائِعَ الباعة الواقفين. كانت السوق مُزدَحمةً بِالنّساء اللاتي يَسِرن في مَسالكها الضّيّقَة. يلتحف بَعضُهنّ بالحائِك الأبيض وأغلبيتهنَّ سافراتٌ، يرتَدين سراويلَ دجينز. دَلفتُ من بينهنّ إلى مَصاغَةٍ حيث يجْلِسُ، وراءَ طاولة خشبية صغيرة، شابٌّ أسمرُ الملامح، اصفَرَّتْ أسنانُه من كثرة التدخين. إلى جانِبه خزانةٌ بلوريّة، تراصفَت على رفوفها خواتمُ وأقراط وسلاسلُ فِضِّيّة. منها ما انكسرتْ بعض أجزائِهِ ومنها السليم.
 
- عدّولة! 
تَردّدَ قليلاً، ثم انطلقَ في ضَحكة مُدوِّيَّة، بعدما استعادَ مَلامح وجهي وصوتي. 
- أخي جَمَيَّل! سَنواتٌ طويلة ما التقَيْنا. أين كنتَ طيلةَ هذه المدّة؟
- ظروف وشُغل وأسْفَار، وما زلنا على العهد. 
- سَبع سنواتٌ؟ عَشر؟ قبل الثورة أم بعدَها؟ أيُّ ريحٍ أتَتْ بكَ؟ وقَهْقَهَ عاليًا. 
- عدّولة، الرجاء أن تَصوغَ حرفَ"الشين" وأن تَلحِمَه وسطَ هذه القلادة الذهبيّة. عندي مشروع علاقة، "لعلَّ وعسى". 
- نَعيش ونَسمعْ. صِرتَ تَحكي بالعَلاقات يا جَمَيَّل؟
- "هذا من فضل ربّي". لكنها علاقة نِضاليّة بَحتة. وربّي عالِم. 
- ربّي أنا الذي أعرفُه. على أكتافي وأكتافك قامت حركة "النور". أتتذَكّر كيف بَذلنا من أجلها الغالي والنّفيس.
- خلّني عدّولة، لسنا في اجتماع للحركة ولا في جَلسة مُرافعَة. أيام وَوَلَّتْ.
- هذه هي الحقيقة، ما كان للشّيخ أن يظهرَ "لولا التَّضحيات الجسام"...
- حلوةٌ هذه العبارة! غير أنّها مقتبسةٌ من العَهد البائد. قالها الرّئيس المعزول في أحد خطاباتِه.
- لا علينا. ضَحَّينا وسُجِنّا وفينا من ماتَ في "دار خالته". لم يبق أحدٌ من أسرتي إلا وقد...
- أتَحسب نفسكَ رامبو؟ 
- والله، لك وَحشة!
 
وظلّ عادل يتكلم بنَبرته المَرحَة، كالعادة. تنفرِج أساريره عن ابتسامة عريضة ويداه تقلّبان السلسلة الذهبيّة وهو ينظر أين سَيَربط حرفَ "الشّين"، المصنوع سلفًا ليَلحمَه في الواسطة. "أصابِعُه من ذَهَب"، كما كنّا نقولُ عنه ولسانه يَغزل الحرير. يَصْنع ما يشاء من الحَلْي من مَعادن مَخلوطة. "من كلّ وادٍ عصًا"، بنفس البراعة التي يناقش بها مواضيع شتَّى موحيًا لسامعيه أنّه يَعرف كلَّ شيءٍ. 
 
تَركتُهُ بعد أن دخلتْ زبونَةٌ أخرى، سمعتُهُ يرحِّب بها. لسانُه فعلاً يغزل الحَرير. ثم ناداني:
- جَميَّل! مُرَّ عليَّ قبلَ المَغرب، تَجد السلسلةَ جاهزةً. ستفرَحُ بها صاحبةُ "لعلّ وعَسى". وبعدَها نذهب معًا إلى "مَقهى الحبايب". واسقني واشرَبْ. الجلسة على حسابي. 
كان يقصد بكلمة: "مقهى" خمّارة هذا الحيّ الشعبي. لكنه دَارى ذلك بسبب الزّبونَة. لم يتغيَّر بعدَ كلّ هذه السّنين. لا يزال يَعبثُ بكلّ شيءٍ. 
 
عدتُ إليه قُبيل أذان المغرب فوجدتُه على وَشَك مغادرة المَحلَّ. وما هي إلا دقائقُ حتّى دوّى الأذان في أحياء المَدينة العَتيقة. سرنا في اتّجاه "حانة الحبايب"، الواقعة في نهاية الزقاق الضَّيق، حيث تموء القطط وتقفز بين سلال القُمامة. جلسنا على طاولةٍ منفردةٍ وطَلبنا عَبواتٍ من الجَعَة الباردة. كلما تقدّمَ الليل، صَفتْ عباراتُه وعاد إلى ذكرياتِنا المشتركَة أيّام النضال، يستعيدها واحدةً بعد أخرى. قرَّرتُ أن أستمع إليه، دون مقاطعة، لغايَةٍ في نفس يعقوب. وظلَّ يتكلّم ويشرب ويَضحك حتى انتصَفَ الليل، وانفضَّ رُوّادُ الحانة الآخرون، واحدًا تلو الآخر. لكنّه طلَبَ منّي أن أواصلَ السَّمر... حتّى مَطلع الفجر: 
 
- يا جَميَّل، يا جمولة! أريد الليلة أن أبوحَ لك بأشياء. أتَتَذَكّر أيام النشاط، لمّا كنّا نتحرّك في صفوف "حزب النور" وكيف اغتَصب أزلامُ الحاكم أختي شريفة، أمامَ عينيَّ، عقابًا لي على أنشطتي الحزبيّة. كم عَذّبونا، لن أنسى. لا أدري مَن باعَني.
رمقني، وفَجأةً تعَكّر مزاجُهُ ومِزاجي. هل اكتشفَ الحقيقةَ؟ لكنّه عاد إلى الضّحك. صبَّ قارورة الجَعَة في حَلْقه مرة واحدة. 
- نعم، راودتْني شُكوكٌ قويّة. وتأكّدتُ أنَّ هناك مَن باعَني. مِن الجماعة ذاتِها، أكيد من حِزب النّور. 
- ربّما أوْهَموكَ بذلكَ نكايةً فيك. تَكسير مَعنوياتٍ؟ تعرف وسائِلَهم القَذرةَ. 
- ربّما. في السجن، تَعَرّفتُ على أعضاء من جمعيّة: "أمَمِيَّة"، أعدى أعدائنا، التي كان يشرف عليها حَفْنة من الماركسيين. متطرّفون، يثورون ضدّ كلّ شيءٍ ولا تُخيفهم اغتيالات السلطة ولا سجونُها. 
- لكنّكَ انضممتَ إليهم!
 
- بعدَ انتهاء محكوميّتي، تعاملتُ مع "الغرفة السوداء" لديهم، المُكلّفة بعمليّات التخريب. كانت الجمعيّة تطلق عليها اسم "إنذارات" في اجتماعاتها السرّيّة. كان الرئيس متحمسًا لإنجاز هذه العمليّات ويعتقد أنها تقرّبه من "الرّوح المطلق". ما كنتُ أفهم من خُطبِهِ شيئًا. مرة هيجل ومَرّة أبو ذرّ.. كان يجاهر بالإلحاد، ثمّ لا يرى حَرَجًا في توظيف مفهوم "الشهادة"، أثناء الاجتماعات المَفتوحة، والتي تَسمح بها السلطات لذرّ الرّماد... 
 
كنت أتأمل وجهه وكأنما أراه للمرّة الأولى. ألاحظ حركاتِه وتعبيراته. فإذا به أمردُ، إلا أنَّ السمرة أخفت ملاسة بَشَرَته، ما عدا شَعَراتٍ مُتناثرة، على ذقنه هنا وهناكَ. وازداد توتّره فجأةً حين لامَسَ إصبِعَه المبتورَة التي تَلفت أثناء قيامه بإحدى تلك العمليّات. لحسن الحظّ، نَجَت بقية الأصابع وتمكّن من مواصلة صناعة الذهب التي ابتدأها منذ أن فارَق المدرسة ووضعه والدهُ صبيًّا في أحد مَحالّ الصاغة حيث تعلم الصَّنعَةَ بسرعةٍ. 
 
- لما فتحتُ المصاغة لحسابي الخاص، أجبرني أبي على أن يشرفَ على مداخيلها. أطلقنا عليها اسم: "مُجوهرات الشّرف". لكنني ما لبثتُ أن أضعتُ مَصوغ الناس وبعتُ بعضه، وضاعت البقيّة الباقية. صارَ الناس يأتون إلى الوالد ليطالبوه بتعويضاتٍ ماليّة أو على الأقل استرجاع البضاعة المكسورة. 
 
- أعلم أنك استَعدت عافيتَك بفضل لسانك الذي يَغزل الحرير.
- نعم، صار مَحلي ملتقًى للشيوعيين، يأتون آخرَ اليوم للنقاش وإعادة بناء العالم. قال لي أحدهم متحدّثًا عن أختي شَريفة: 
- "كلّ ليلةٍ لا تقضيها أختُك في حضن رجلٍ هي ليلة ضائعة! خلّيها تحرر جسدَها وسيتحرّر المجتمع بأسره". 
 
- تَصوّرْ ! هذا النذل، قالها مباشرةً، دون مقدماتٍ. يومها نظرتُ إليه بحنقٍ وكدتُ أضربه بالشاليمو الذي كان في يدي. تذكّرتُ كلامَ جدَّتي التي كانت تصيح: "لا أطيق ذُبَابًا ذَكَرًا يحوم في بيتي"، كلما زارني أحدُ رفاقي الصغار. 
 
- جَدّتُكَ خائفة من العَيْن!
- كلمة "أختك" تخرجني عن طوري. مثل محركٍ هادرٍ يَسكن ذهني وجَسدي. إذا اشتغلَ، أفتقد ملكة الكلام والتّفكير.
- أتذكر جيّدًا طلعاتك ودَخْلاتك. 
- بعدها، عدتُ إلى بعض "إخواني" القُدامى، من حزب النور، كانوا سَمْباتِيك. يحبّون الأكل والضحكَ وتعدَّد الزوجات. أظنُّ أنَّهم ما انضمّوا للحزبِ إلاّ من أجل هذا الوعد الانتخابي: أربع نساء يا جَمَيَّل! صاروا يتردّدون على مَحليّ حتى يَغصُّ بهم. نتناقش في كلّ شيءٍ، "من كلِّ وادٍ عَصًا"، كما ذَكرتَ. حلو هذا المَثَل. وكانت النقاشات السياسية تعود، دون شعورٍ، إلى المرأة. غريبةُ. كُلهم مكبوتون؟ 
 
- "عليكَ أن تُلزمَ أختَكَ بارتداء الحجاب. لا تَتركْها تخرجُ متبرّجَة بين الرجال. سي عادل! هذا من أكبر الكبائر، كما لا يخفى. مع أنَّ..."
- اشتعلتُ غَضَبًا. كدتُ أضربُه، هو الآخر، حين واجَهَني بهذا الكلام. 
- طوّل بالك!
- أزيدك سرًّا أخْفَيْته منذ سنواتٍ. في سنِّ الرابعةَ عَشَرَ، كنتُ أذهب مع أختي شريفة، وهي تَصغرني بسنةٍ، إلى المسجد لنلتقي بالشيخ. كنّا نمرّ، في طريقنا، عبر محلّ ميكانيكي يُصْلح الدرّاجات. ذاتَ مَرَّة، نادانا: 
- شباب، تَرغبان في ركوب دَرّاجة سريعةٍ، تذهبان بها إلى المدرسة؟
 
أدْخَلنا بعد ذلك إلى مَخزن خلفيّ، تكدّست فيه أصناف العجلات وبقايا درّاجات تَنقُصُها قِطع غِيار. بإيماءَةٍ من رأسه، شجَّعني أن أتفقَّد إحداها وأن أسرّحَ أصابعي في سَلاسِلها. اغتنمَ فرصة انشغالي وانقضّ على أختي واحتَضَنَها بقوة. أحسَّتْ بشَيْئِهِ يدقُّ بَطنها الظريفَ وما تَحتَه. في البداية، لم ندركْ، لا أنا ولا هي، أنّه بصدد اغتصابِها حتى انبَعثَ منه شهيقٌ متقطّع. نزعتُها منه بقوة. بَصقتْ هي عليه ثمَّ هَربنَا مُسرعَيْن. لم نَرو القصة لأحدٍ خشية العقاب...أحوال يا جَميَّل.
وكان عادل كلما أكمل جملةً، ابتلع كأسًا، ثمّ أغرقَ في ضحكٍ عميق صادقٍ:
 
- هيا، قل لي، الآنَ، من هي صاحبةُ "لعلّ وعسى"؟ 
- عادل، أريد أن أهدي هذه السلسلةَ إلى أختك شريفة.
غصَّ بكأسه التي في يده وانطلَقَ في ضَحكٍ محمومٍ. ثم قال:
- كان بودّي. هي الآن "تخرج" مع حازم، ابن "الشّيخ". هل تَذكُرُه؟ أصبح الآن نائب رئيس الحزب الشيوعي...