الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حماقة

المصدر: النهار
لوحة "الاستنساخ الممنوع" للرسام البلجيكي رينيه ماغريت. (تعبيرية)
لوحة "الاستنساخ الممنوع" للرسام البلجيكي رينيه ماغريت. (تعبيرية)
A+ A-

جو القارح

حماقة

حماقة،

كلّ ما دار ويدور،

وذلك الذي ينتظر في الزاوية،

ليسقط على أرجوحة الحياة حدثاً مفاجئًا،

حماقة.

حماقة،

تلك الساعة المكفهّرة على الحائط،

وعقاربها على وجهها كشاربين تتلاعب بهما رياح الانتظار،

تركلهما نحو فوق،

ثمّ تغرقهما نحو تحت

أمّا أنا،

فأرفرف بلا جناحين بين هذين الخطّين الضيّقين،

في تلك الفسحة المنهوبة من الواقع المرير،

كلّ ما يتساقط من غيوم الوقت على أرض أيّامي الخصبة،

حماقة.

حماقة،

هي العبارات المنسدلة من أكمام الحبّ العقيم،

تخيّلات تعدّت الخيال،

فاصطدمت بوجهي بوحشيّة،

طاردتني حتّى ذاب عن شَعري ثلج شتاء عشق قاسٍ،

تناثرت عن أكتافي لتسقي أزهار الربيع الهارب،

هربَ إليّ،

من جمود الشجر وغياب نشوة أوراقها،

من سكوت عصافير احترقت أوراق كلمات أغانيها،

من سماء باعت غيومها لأسباب عاطفيّة،

تلك الغراميّات المنقوحة على دفاتر ذكريات طفوليّة مبلّلة،

حماقة.

حماقة،

آمالي وأحلامي،

حبري جفّ قبل كتابتها،

لتستقرّ على مقاعد الانتظار في قاعة بلا أبواب،

مستقبلي قطار مشى ونسيَ ركّابه،

دهسَ أقدام طموحي وذهبَ،

ذهبَ ليلاقي المجهول قبلي،

ليعدّ لي نارًا يشويني عليها،

حتّى أصعد نحو السماء المملّة،

غبارًا يتمايل مع هواء نشيط،

تلك الآمال وما معها من أفكار شاردة ارتطمت،

حماقة.

*****

دنَس فائض

أريد أن أموت بصمت،

أن انطفئ بهدوء كشروق لم يبلغ سرور الغروب،

أن أذكر في سهوة عينين غريبتين عن ألمي،

أن أنحصر في فراغ العالم،

ما وراء الكذب،

أمام لا أحد،

في عراء نفسي وعلى زجاج وجودي الملبك.

أريد،

لكي لا يبقى أيّ شيء في عيني،

هذا الخندق الذي حشرتُ أنفي فيه،

أحسّ به،

انصهار روحي في الوقت،

يمزّقني بين أسنانه بكل محبّة،

ويبصقني على إحدى نوافذ العالم المكسورة،

لأتشمّس،

لعلّ اليوم، وهو يمرّ، يحملني على ظهره،

يوصلني إلى حافّة الأفق،

يشنقني على مرأى الأمواج،

لأستمتع برائحة النهاية الزكيّة.

هنا كلّما تقدّمتُ،

زادَ الشوق للموت أكثر،

للحظة النهاية،

لتسليم الجوائز،

عقوباتنا،

ندفع عمرنا كلّ ثانية ثمن خطأ غيرنا،

فنعيش الحياة الواحدة مليون مرّة،

وتريد أن تتحمّل يداي أكثر؟

أكثر من هذا؟

و يداي تمنعانه الانزلاق لكي لا يهرس رأسي،

و لكنّني،

أنا ذلك الخطأ الغابر أمسح عن سطح العالم آثاري،

ألتقط أنفاسي من أزّقة ضيّقة قصدتُها طلبًا للوحدة،

عن جدران تمدَّدنا عليها سائلين راحة مميتة،

عن شعاع ضوء اخترقني ورفعني نحو أسفل،

عن وداع أحبّاء غرباء،

عن مصباح أمل أشعلتُه ليشعل اليابس فيّ،

فأحرق كلّ ما بقي لديّ من مشاعر ورقيّة في مكتبة مهترئة.

الدنيا لا تكتمل،

لأنّنا نُخلق أنصافًا وننتهي لا شيء،

الدنيا لا تكتمل سوى في خيالنا،

في مقبرة العمر وربيع الكذب،

نقضي أوقاتنا في الفوق خوفًا من التحت،

لأنّنا لسنا منه،

لم نكن،

ولن نكون،

وهل أساسًا نحن؟

أم نحن جناحان بلا طير،

ورصاصة بلا مسدّس،

وحزام بلا خصر؟

أم نحن؟

أم نحن غيرنا وغيرنا نحن وكلّنا أين؟

كلّنا أين؟

كأنّنا كيان،

نحن قمّة المجهول،

هوّة في وسط وقائع شبيهة،

سطر فارغ في صفحة خربشات بلا لون،

خربشات محاولات،

خربشات فشل ضاحك،

فشل كوميديّ يضحكنا فيبكينا،

ونحن،

مسمّرين أمام هذا كلّه،

ابتلعنا عيوننا،

خوفًا من إدراك خطيئتنا،

لا حبَل بلا دنَس، بل دنَس فائض تسرّب منه حبَل.

*****

ليس ذنبي

ثمني اصبعان من الفكر،

وروحي عاهرة يشتهي خيالَها عمرٌ أحمق،

نُكتة الخلق لم أفهمها،

بعد بضع نوبات حياة ضحكتُ بلا سبب،

يبدو أنّ المهزلة بدأت منذ زمن.

نزلة لم تثبت رجلاي على ظهرها،

لاعبَ الهواء مشاعري حتى الشبع،

على رأسي المقصوف بعضُ التهم،

هويّتي ملفّ إجرامي الأوّل والوحيد،

ولوحُ المشتبه بهم لا ينتهي أبدًا.

شربتُ روحي حتّى عطشتُ،

زادت في أوهامي متعة العبث،

لم أفهم،

مشيتُ وأنا لم أفهم،

حتّى أنا.

سكبتُ الحبّ في كؤوس مكسورة،

لعلّه إذا فاضَ أسكَرَ الطاولة وغنّى،

لم يعد يلبّي حاجتي،

رغبتي في الذهاب نحو فوق بلا تذكرة عودة،

الحبّ لا يراقص إلّا الخشب،

لكنّ النار سبقته إليّ.

ليس ذنبي أنّني ولدتُ،

أنّني أحببتُ وانكسرتُ حتى لملمني الليل،

ليس ذنبي أنّني أكتب،

أنني أسحب خيوط الكلام من فمي بلا هدف،

لأتنقّل كنسمة صيف بين زهور مشتاقة.

ليس ذنبي،

أعتذر، لكنّ ذنبي يثقل خطواتي المجروحة،

يسيل من يديّ حبرٌ سخيّ،

الورق لا يحتمل أكثر من هذه الحماوة.

سرُّ الكذب أصبح مهنتي،

استقلتُ من الحزن منذ زمن،

أهوى قتل نفسي بهدوء،

بلا مبالاة مثيرة تدفعني إلى الجنون،

بأصابع ناعمة تغطّي جسدي الأصمّ،

الوقت لم يحن بعد،

جثّتي تناديني لأحرقها،

لأغرقها في نهر بلا قعر،

لأدفنها تحت ثامن أرض لوحدها،

لأرميها في السماء حتى تطير.

*****

كمّامتي

كمّامتي تحميني،

تحميني من التقيّؤ على العالم بأسره،

تبعد عنّي رائحة الناس،

رائحة تقتل السكينة في مهدها،

تدفعك لتحيا فقط، لتقتلك بدم بارد في النهاية.

العالم تحتي وأنا فوق،

أخاف إطالة النظر نحوه فأسقط،

سقوط من ذهب،

هزيمة من العيار الثقيل.

أخاف النظر نحو أيّ وجه كان،

شدّة الحياة تقرفني،

هذه الطاقة التي تسيل على خدود البشر تكاد تخنقني،

ما أجمل الموت من الحياة!

إنه "الموت السعيد"،

بداية المشوار مع ضوء أصمّ،

تناديه فيمرّ كالبرق،

تهرب منه فينغرس في ضلوعك ويطحنك على الأرض،

لكنّ كمامتي معي،

تحميني،

تحميني من أن يرى ضوءُ الشمس فمي،

من أن يرى شعاعُ النور كلماتي العارية،

مَن يعوّض لها صفاء جسدها الناعم؟

سئمتُ جَرّ ظلّي خلفي،

يشعرني بأنّني مُراقَب،

يعرفون جيّدًا أنّني هنا،

كما أنهم يعرفون أنني أعرف،

إذن لا داعي لكي.

أعرف بتاتًا،

وأخيرًا أستطيع التخلّي عن جسمي بشرف،

كأنّني أسلّم أجمل قمامة لجامع طوابع،

لعلّه يحفظها.

*****

عندما كنتُ صغيراً

عندما كنتُ صغيرًا،

أمسكتُ الوقت بذيله ورميتُه في حوض النسيان،

كانت الدقائق صدفة تعبر ولا تُسمَع،

أحيانًا أعدّها لعلّ الكلام ينبت من مصرعها،

لكنّ للحديث هيبة يفتقدها طفل صغير،

إنّها لعبة الكبار الأزليّة،

أمّا أنا،

فكان لي حقّ لملمة فضلات أفكار مرقّعة على طرف المنفضة.

عندما كنتُ صغيرًا،

كبرَ حلمي قبلي،

أريد أن أصبح رجلًا،

أن أكبر

لم يصبر الحلم عليّ لأرتّب أغراضي بل مشى قبلي،

ربّما طار،

لأنّني من يومها لم تتوقّف رجلاي عن الركض،

هل يُعقل أنه خُطف؟

أشكّ في ذلك،

لأنه أكبر من أن يُرى حتّى،

لقد وجدتُها أخيرًا!

لقد ابتلعني،

حالِمٌ سكران في مهد الخيال المضطرب.

عندما كنتُ صغيرًا،

كان للحبّ براءة أروع من الحبّ نفسه،

كانت اللمسة والهمسة وتركيب المشاعر على قياس الكلمات،

نثرُ الحرف على طول الروح،

وإمضاء أخير بصفة مجهول،

كان للحبّ ما لم يكن لدينا،

فصار الحبّ نسيمًا تقاعدَ قبل الربيع،

طفولة مفعمة بالوعود،

أعدكِ أنّني سأبقى هنا!

لن أترككِ ولو جرحتِني!

الوعد أسرع من عصافير الحبّ،

ويا ليتنا استطعنا اصطياده!

عندما كنتُ صغيرًا،

كان للسهر ألف عذر،

الحياة،

النشاط المفعم في شراييني الضيّقة،

بالكاد أشعر بدمي ينسرد فيّ،

والنوم كان أبغض الحلال،

لا يزال لديّ شيء،

شيء أو فكرة أو حلم أو عذر،

دائمًا كان العذر جاهزًا،

وأنا كنتُ دائمًا في العراء مستعدًّا لارتداء أعذاري بلا انتقاد.

عندما كنتُ صغيرًا ،

لم أكن كبيراً،

لكنّني كنتُ،

كنتُ وأكون،

وسأكون إذا تحمّلتُ كَوني،

عندما كنت صغيرًا،

أنهيتُ كلّ شيء،

فلم يبقَ لي سوى أن أكبر،

فتفرّغتُ للتمثيل،

الأدوار تعبر فوقنا بالدور،

اليوم أنا هنا لكن غدًا أنا هنا،

سؤال وجواب،

وجوابي سؤالٌ لي ولجوابي،

لماذا كنتُ صغيرًا؟

لأنّ الخطايا تُولَد صغرى بلا انتباه، لكنّها تكبر لتصبح جوهر إنسان.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم