الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

أنا وأبي والغيلان

المصدر: "النهار"
لوحة للرسام الراحل محمد شمس الدين (تعبيرية).
لوحة للرسام الراحل محمد شمس الدين (تعبيرية).
A+ A-

أنطوان أبو زيد

"لكَ/ لصدفتكَ الواهنة، المانحة/ رحابتك، شمسك المختبئة تحت/ رداء الشتاء والصقيع،/ لقدمك التي لا يُرى ألمها من هنا،/ هذه الصورة./ وتبتسم لأنك تمرّنت عمرًا من أجل/ لهاثين بل أكثر".

- لديَّ صورة، إن شئت أريك إياها. هاتها. أنظر. هذه من العام 1960، على ما أظنّ.

- أين؟

- في القدس. أنظر هذه الابتسامة التي تعلو شفتيه، وهو واقف على فسحة بسيطة، في مقدّم الشاحنة المحمّلة بالليمون، يده على حاجز الشاحنة الحديد المزيّن ما بين المصباحين.

- وأنت؟ ما دهاك؟ تحتفظ بالصورة علامة على ماذا؟

- لم تنظر جيداً.

- كيف؟

- ألم ترَ وجنتيه؟ من فوق ثيابه الكثيرة: ترنشكوت، وتحته سترة، وتحت السترة كنزة صوف، وفوق ذلك كله شالٌ يحيط بعنقه. وشعرٌ كان لا يزال غزيرًا أسود.

- أنتَ لا تقف أمام الكاميرا مثله.

- من قال لك ذلك؟ صحيح أني أتظاهر بتحاشيها ولكني لستُ أقلّ احتفالا منه، أبي، بالتقاط الذكرى، وفي مكان مقدّس.

- مقدّس؟ شاحنات ثلاث وليس غير أكياس وصناديق تبرز من أعلاها!

- لو أنّك تضع مكبّرًا على الصورة، لرأيتَ الضحكة  العريضة هذه، تبرز ساطعة من عينيه الجاحظتين قليلا، وفمه الرفيع. أما المقدّس، فهو المكان الذي أخبرنا أنه زاره، في خلال رحلة شاحنات الليمون الثلاث الى الأردن.

- المقدّس المقدّس! ماذا تعني؟ وأنتَ تقول إنك ملتبِس النفس! مكان مقدّس؟ كيف وتظنّ نفسك بعد أنك هو! هذا الذي بات غبارًا وأنتَ ما زلتَ هنا تناقشني!

- أنا لا أتكلّم عن هذا الازدواج. أعيشهُ. لا أستطيع قوله. أنظرْ. صحيح عيناي ليستا جاحظتين، ولكنهما، لو نظرتَ جيّدًا من نفس  اللون  والاتّساع  الطفيف. أما المقدّس فهو ذلك المكان، بيت لحم، على  ما  أظنّ، زاره أبي برفقة  محمد  مشارقة وأويس الذي نسي كامل اسمه. هو المكان الذي يجعلنا نظنّ أننا غير ما نحن، أننا لا نشيخ ولا ننتهي، ولا تندثر آثارنا نهائيا، كالغيمة التي تظنّ نفسها السماء، أو قطرة الماء التي تحسب أنها النّهرُ مصغّرًا جدا، وأنها يمكن لها أن تعود الى جريانها ساعة تشاء. المقدّس هو أن تبيتَ وفي رأسك همٌ واحدٌ، هو همّ الطيران إلى عالم جديد دومًا حتّى لو كنتَ في أسفل وضع.

- وتجادل في المثاليات مع ذلك! أين صرنا مع هذا الفصام؟ السكيزوفرينيا! برافو!

- من قال أنّني لا أريد ذلك أو يشقّ عليّ أن أترك نفسي وأنضمّ الى نفس أخرى، هي نفسُ أبي؟ الفصام حين يتوهم المريض أنه شخصٌ آخر. لا. أنا هو  الآخر. أنا هو أبي. أنا وأبي واحدٌ. هو وإياي واحدٌ. للدليل أنظر. أعطيك صورة أخرى غير تلك التي توضّع فيها على مقدّمة  الشاحنة، في رحلته الشهيرة هذه، صورة أخذها له المصوّر الأرمني كارابيت، وكان فيها الى جانب عاملَيْن  من عمّال رشّ المبيدات، وسط الساحة الفسيحة. إلى جانبهم بدت المضخّة وخّزّانها البيضاوي الكبير. أبي كان أحد الواقفين الى الجانب الأيسر من الصورة، وبدا، هذه  المرّة، بضحكته المضيئة، وبثيابه الكاكية وشعره الأقلّ كثافة من السابق، يسعف العاملين صديقيه، أو يبدّد لديهما إرباك التوضّع بثوب العمل، بعد انتهاء دورة الرشّ الأخيرة، ومصاقبة مرور البارون كارابيت في الحي، ودخوله، متعجّباً من الفسحة المتوارية خلف البوابة الضيّقة التي نفد منها الى زبائن جدد.

- كان عليك أن تكمل، فتقول لي: ثم قارن بين هذه الصورة وبين صورتي التي أُخذت لي في مكان فلاني!

- عادي. في وضعي أنا لا لزوم لذكر المقارَن به أي أنا. فهذا  ليس  موجودًا  بعد.

صحيح هو- أي أنا- يكتب. ولكنّه أو لكنني أفتّش عنّي فيه. ألملمُ نفسي فيه. كما يلملم القندس العصيّ من أطراف النهر أو الساقية ليبني منها سدًّا  للمياه. أنا ما زلتُ ألملمُ صوَري الأولى فيه، أولى العصيّ في سدّ حياتي الأوّل.

- جميل! ولكن يا حبّوب؟

- ماذا؟

- القصّة مفضوحة. وأنتَ لا تزال تؤمن في تحوّلك شخصًا آخر، ظاهرًا.

- إن كنت لا تصدّق فهذا وجهي.أنظر وأنا في الخمسين وأكثر قليلا، وقارن بين وجهي الذي تغضّن، تخطط، تلوّن بألوان الرماد والتراب وورق التين المصفرّ وجريد البلح المخضرّ اخضرارًا طفيفا، وبين وجهه هنا. هذه  صورته، تودّ الاحتفاظ بها؟

- أفهم نزعتك الجمالية.

- لا. قلْ هو التفاتٌ الى الخلاص. الخلاص من جور المرآة الى بحيرة البدء.

- قلتَ خلاص؟ دخلتَ في اللاهوت ونحن بالكاد في الناسوت!

- خلاص الجلد الذي أنا فيه من متاهته التي أُلقيَ فيها. ثمّ إنه يمكنني أن أعود إلى تذكّر القسمات. في ما أذكر لم يكن وجهه كبيرًا بقياس الرجال العاديين في بلادنا. الوجه الصغير نسبيا، الأسمر، ذو الأنف الحادّ الذي  يقسم  طيفه  اثنين متوازيين ويشقّ الهواء أمامه بلا أيّ جهد، مثل خطّي رأس الرّمح. أنظرْ. هذا الرأس يشبه رأسي. ولو نظرت الى سائر من ينتمون إليّ لوجدتَهم يختلفون قليلا.

- هههههه. يبدو أنّك بدأتَ نقاشا يحتاج إلى علماء أنتروبولوجيا. تعرف أنّك مسلّ. منْ سوف يصدّق كلامك؟ منْ؟ أيّ جهة من تلك الجهات سوف تقتنع أنّك أقرب جينيًّا من الوالد؟ محضُ ادّعاء.

- لا تزعلْ. أنا لا أقول أني أقربُهم إليه. لا منفعة لي في ذلك. هم يعرفون.على كلّ لقد مضى إلى حيث كان ينتظر، من دون أيّ منّة. إنما هو شعورٌ لا  أعرف مصدره بأنّه ساكنٌ بقوة في ذاتي. فما أن تحفر قليلا حتّى يطلع. تمامًا كتلك الأرض التي حرسها اثنين وخمسين عامًا، "أينما حفرتَ هنا، أقلّ من عشرة أمتار خرجتِ المياهُ " كما كان يقول.

- لا لزوم لتشرح لي.بحسب معرفتي أنت تحتاج إلى نسمة هواء منعشفي الطبيعة. نَفَسٌ طريّ، تشعر به ليعوّض عما ضاقت به نفسُك.

- آ... أنتَ تأخذ دوري الآن!؟

- أحاول الدخول الى عالمك، تلمّس النقاط المشتركة بيننا. أحاول أيضًا، لو أمكنني ذلك، الكشف عن موقفك الغامض من الخارج؟ خارج الدار؟

- أحسنتَ. كان ثمة إحساس لدينا أننا نقيمُ في عالم  آخر. عالم له حدودهُ المبنية مسبقًا، ربما منذ عشرات بل مئات السنوات. نقول لأنفسنا:هكذا وُلد العالم لنا. بستان نكاد نتعرّف الى حدوده، وغابة تتنفّس معنا، وشمسٌ تهبطُ علينا وحدَنا، ورذاذُ المطر ثمّ العواصف والسيولُ كأنها تنهمرُ على منحدرنا وحدَه،أمّا الحيّ وسكّانه فيأخذون مما نتنفّسه وينزل علينا ويفيضُ من آبارنا الثلاث.

- ههه... مخيّلة طفوليّة... زاوية الرؤية كونتر بلونجيه، من تحت الى فوق. بإمكانك أن ترى الدنيا مقلوبة أيضا... هههه! وجذع  الشجرة تراه منبعًا لحياة المدينة!!!

- لا. أراها كما كانت. بعينيّ، بل بذاكرةعينيّ اللتين لا تزالان تعيشان الى أن تعاينا صورًا تشبه ما كان...

- مسكين.

- لنعدْ الى البسمة المضيئة. كانت بسمته، في تلك  الصورة ترسلُ أنوارًا والتماعاتٍ غريبة. ربما هي مسرّاتٌ من  تداول الأيدي الشديدة للمياه، المياه النقية الهادرة من البحيرة الدائرية ونفاذها الى خزّان الدواء الأبيض يُرشّ على غصون الشج، والشّجر تتلوّى في حفل اغتسال  ومداواة من حشرات القيظ والرطوبة.

- يعرفهما جيّدًا؟

- نسياه. لم نذكرهما. لم يأتيا كثيرًا، ولم نرهما إلاّ في  مواسم الرشّ والاغتسال. ربما الابتسام من يقينٍ بأنه صديق  المسؤول عن هذين. هو الطبيب الذي كان يخاطبه عن المرض، وعلم أولي، وكيف تأتي الحشرة من أيّ مصدر ولماذا تسقط الورقة، ومتى تُرَشّ الشجرة، وما هي مقادير الدواء المائل الى لون الكبريت غالبا، وأي وضعية للرشّ... وما كان ليقرأ كتابًا أو يفكّ حرفًا. الراديو خزّانه، مكتبته النقّالة، يتّكئ الى الكنبة أمام الراديو الانكليزيّ  الصنعة، بصندوقه العالي، وخطوط  موجاته المتدرّجة من الجنوب الى الشمال. من موسكو وبرلين وباريس الى لندن فالجزائر فالقاهرة، وبيروت، ثم الشام، وبغداد... ويصغي، مساء، الى نشرات الأخبار، والنداءات وتحيات يرسلها أبناء "الأرض المحتلّة " إلى ذويهم. وتراه يبكي معهم. لم أعرفه أبي، لم أكن أعرفه يبكي غير هذه المرات أمام الراديو، مصغيا الى أصوات متهدّجة ترسل الحنين والشوق عبر الأثير. بكاؤه كان ناعما أقرب الى النشيج الأنثوي المتقطّع والحادّ. ولكن حرصه على إخفاء صوت بكائه برفعه صوت الراديو قليلا، ونحن في الغرفة نفسها. لم يقلْ لنا يومًا لماذا كان يبدي تعاطفه مع أولئك الذين كانوا يرسلون تحياتهم، عبر الأثير، إلى أهاليهم في الأراضي المحتلّة، وحين يبدأون بذكر أسماء الأقارب، يصيرون ينشجون وتهتزّ أصواتهم، وخافتًا كان. ليّنًا كصوت المرأة الغريبة التي كانت تزورنا كلّ ثلاث سنوات لتروي لنا حكاية عن أمير شديد الوسامة، ثم تمضي مع الغروب الى قريتها القرية الجنوبية البعيدة. المرأة البيضاء، جميلة العينين، الملفحة   بالأسود والمغطّاة شعرها بالإيشارب الواصل على أول  شعرها  المبيضّ أعلى جبينها، كانت ترسل نغمات صوتها إلينا، نحن المكوّمين على مصطبة الدار، قبالة القنطرة الضخمة، تتركنا نتخيّل الدروب التي سلكتها المرأة القريبة الغريبة لتبلغ الينا. نتخيّل من صوتها الناعم، جمال الأمير وفتاته المخطوفة على أيدي اللصوص وشجاعته التي دفعته إلى تحدّي المخاطر وبذل كلّ قواه- وقد صرنا وقوفا على  رؤوس أصابعنا  حفاة  أو في صنادلنا العتيقة ذات الفتحات- لتخليص الأميرة.

- يا حبيبيتي. إسّا الفرسين اللي جايين مِعو ما كانوش عارفانين إنوناطرهنْ عسكارْ..ومادّين رماحُن... يا لطيف! بس ربنا خلّصو للأمير... كييف؟ ما عدتش إِعرفْ...


(لوحة للرسّام محمد شمس الدين)

وهنا، تتوقف الراوية ذات الخمسين، لتمجّ آخر نفَس من نارجيلتها التي كانت جلبت تبغها معها، وتنفثها فوق  رؤوسنا الملتهبة بنيران الجيوش وقرقعة السيوف والتماع الخناجر، ومن دون أية صرخة قتال. تنظر إلى الوالدة المتوارية في الغرفة، ذات القباب، مع وليدها الرابع، تخترع له قماطَا من الشراشف البيضاء المغسولة على ثلاثة أيام وعشر طلاّت من شمس آذار ذلك العام.

يترك الراديو على حاله، بصوت عالٍ، يكاد يبلغ الشارع الضيّق الذي يمرّ منه السابلة، العائدون مساء من المعامل في الطرف المقابل من الاوتوستراد. يستمع الى آذان المساء، تحت مطرات أيلول الهزيلة. بعضهم يقف قليلاً، أسمع خطواتهم وهي تختفي لدى الأباجور المطلّ على الطريق، في الغرفة الجنوبيّة التي كان يفضل الإقامة  فيها. ثمّ لا تلبث هذه الخطوات أن تعاود التقدم، بعد أن تتثبت من أمر وتتوارى في سكون أطراف البساتين هناك.

كان يصغي بإمعان الى كلمات المؤذن، يفتح  فاه  إعجابًا، حين تتعالى تراويح المؤذن، تحملها تلاوات الشجى والرفق والحنوّ، فيتهدّل جسم أبي العضل، ولا يحرّك شيئا من بطنه المتراخي، على السرير العالي أو الذي ظنناه كذلك. يتحسس قدمه اليسرى ذات الإصبع المبتورة، يمسّد على طول عَظْمة السّاق، من أعلى الركبة الى القدم، مرات  متتالية، وهو لا يقصد النظر الى ولديه المتناومين، في الغرفة، وكأنه عارف أنهما لاهيان الآن بتراتيل غريبة، تأتيهما من الراديو، هذه الأداة العجيبة التي يسألان نفسيهما دومًا كيف الدخول الى غرفة الأصوات العجيبة  فيها:

"اللاا ااااااهُ أكبر اللللللاهُ  أكبرْ... لا إلاااااهَ إلا الله...".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم