علي حمدان
أول عمل أقوم به صباحاً هو القراءة. لا عدد صفحات محدد أو مدّة معيّنة ألتزم بها، أقرأ حتى أجدني باسماً لفكرة هنا، أو مشدوهاً بسطر هناك، أغلق اللابتوب عندها وأنصرف الى هراء الخارج هانئاً.
اللابتوب نعم، فقد بدأت استسيغ التصفح عبر الشاشة مرغماً في الآونة الأخيرة، بعد أن غادرت مكتبة أنطوان دون عودة منذ أشهر عندما أبلغني الشاب العامل هناك، باسماً، أن ثمن الكتاب الذي طلبته يتعدّى نصف الحد الأدنى للأجور! إلا أنني عدت وقصدت المكتبة مرة أخرى قبل أيام، مكتبة الحلبي، لا أنطوان هذه المرة، في محاولة لشراء كتاب "الوجود والعزاء" للمفكر المغربي سعيد ناشيد، والذي صدر حديثاً، ففوجئت مجدداً، وبأمرين اثنين؛ الأول سعر الكتاب الذي بلغ ستين ألف ليرة، والثاني خفوت النور داخل المكتبة لانقطاع التيار الكهربائي ربما، أو لتفادي دسامة الفواتير، لست أدري. إلا أنّ دفقاً شعورياً غير طيّب انتابني عند خروجي منها، مفاده أن الانهيار في لبنان ليس في الليرة، بل في المعنى، وأن المكتبة التي أحب بدت قاتمة، وكذلك أيامنا، وأنه لم يبق لنا من مكتبات بيروت سوى مكتبة "منطقة بيروت الرقمية – بي دي دي" الصغيرة ربما.
تتوسّط حديقة "منطقة بيروت الرقمية" مكتبة ملونة جميلة جداً، وصغيرة جداً، على شكل بيت عصفور خشبي، كُتب عليها "خُذ كتاباً واترك آخر"، أعتقد أنها ملاذ مريدي الورق الأخير هنا، حيث بإمكانهم استبدال ما لديهم من كتب مع ما قد يغريهم من المتاح داخلها دون أكلاف مالية، كما أعتقد ان على السيد وزير الثقافة اللبناني وحكومة النيو-انحطاط الاستلهام من الـ"بي دي دي" أو من أي بقعة ضوء محلية او خارجية الأفكار والتفاصيل البسيطة ذات الأكلاف المجهرية، كمكتبة الـ"بي دي دي" الآنفة الذكر، وتعميمها بالتعاون مع من يجدر التعاون معه في كل مدينة وقرية في لبنان لعلها تواسي آلام السقوط في حياة اللبناني التي تفيض خواء يوماً بعد يوم.
انكفاء القرميد والقناطر أمام الإسمنت يختصر قبح الحال في لبنان أيضاً، ولعل هجين العمارة الجميل والعملي في آن والذي تكتنفه منطقة بيروت الرقمية يشكل مدعاة تبصّر لمعالي غفاة الحياة، قادتنا الأشاوس، للاستعاضة عن هدم الجميل بمجاورته وتطويره ليصبح جمالية خدماتية لا متحفية وحسب. "بي دي دي" واحة آمنة، صديقة للبيئة، حاضنة للترفيه والرياضة عبر الحديقة والملعب والمقاهي والصالات المخصصة لذلك، ومنصة داعمة لتطوير الذات والابداع من خلال ورش النهوض بالأفكار التي تستضيفها. "بي دي دي" هي بيروت في زمن آخر و"المكان الثالث" الذي ترتاده بعد المكان الأول: البيت، والمكان الثاني: العمل، وهو المكان الذي يوفر لك بيئة دافئة وصحية، كما وصفه راي أولدنبيرغ، الأميركي المختص في علم الاجتماع الحضري.
تستوقفك بين أبنية منطقة بيروت الرقمية غزارة المطروح حضرياً وخدماتياً، رائحة الاكتفاء، كما تستوقفك الكنيسة المصنّفة كموقع أثري في وسطها، بجدرانها الكهلة المُهملة، لتخبرك عن حجم الكسل لدى الجهات المولجة بالاهتمام بها حصراً، عنيت وزارة الثقافة، وعن حتمية وضرورة اعادة ترميم علاقتنا كلبنانيين بهوياتنا الدينية من أجل العبور الى القرية العالمية المتمثلة بـ"بي دي دي" الفاتنة الواعدة والوادعة حول هذا الصرح الروحي المتروك، والجليل في آن. وتستوقفك اخيراً جدارية الفنان الكوبي-الأميركي خوسيه جيرادا، والتي تظهر صبياً ممسكاً بكتابه وهو مضطجع على بطنه على طول احد ابنية الباشورة المهجورة، لتقول "أنا هنا في هذه المدينة، وأنا استحق الأفضل وأستحق اهتمامكم"، على حد قول نجود مدوه، المهندسة الكويتية التي تهوى بيروت.
إذا كانت سمرقند أجمل وجه أدارته الأرض للسماء يوماً، فإن "بي دي دي" أجمل وجه أدارته بيروت الى العلى. لكن "في البدء كان الكلمة" تقول افتتاحية إنجيل يوحنا، و"إقرأ" كانت باكورة وحي محمد. لا سبيل سوى الكلمة.