خواطر ما قبل التفريز

الأسبوع الأول:
 
علّمتني أمي معنى كلمة الفن التجريدي، لم أعلم أنّه بعد ثلاثين عاماً سأخلّدها بلوحة تجريدية أعرضها في منزلي.
في ثاني أيام شهر رمضان، أنظر إلى القمر هلالاً، كما كانت تدلّني عليه: ابن يومين تقول. في موعد الأفطار، أغسل الصحون المتراكمة، أستمع لسورة يس، السورة التي كانت تقرأها عندما نزور القبور بطريقتها الخاصة وبصوت مسموع. قرأتها لوالدتها، لأبيها، لأخواتها وأخوانها، ولوالدي.
أسمعها وأفكّر، كيف انتهى بي الأمر هكذا؟ ألم يكن من المفترض أن أناول والدي في هذه الأثناء "شوية شوربة" والقليل من البطاطا المقلية؟ ألم يكن من مسؤوليتي فقط أن أطبّق القطايف بجوز، وأن آخذ صحن الطعام للحجة شفيقة قبل الإفطار؟ وأتمنى أمنية أعرف أنها ستتحققّ؟
هنا في بيتي في الجبل، لا جارة، لا قرقعة صحون، ولا وطاويط ترقص على صوت الأذان.
ألم يكن من المفترض أن يوقظني أبي بعد ساعات، لنأكل القشقوان والمشطاح، وأن نغطسّه بقمر الدين؟
 
كيف انتهى بي الأمر وحدي، باكية، مع كلّ هذا الجلي؟
كأنّ الله كان هناك، في منزلنا الأرضي الإيجار في الشيّاح. كيف انتهى بي الأمر، باحثة عنه الآن في كل مكان، من دون جدوى، لا أجده مهما علا صوت القرآن؟
 
أقطّع قمر الدين قطعاً صغيرة، أنقعه مع القلوبات، لا أتذكّر إن كان يجب أن أضيف السكّر أم لا. لن أضيفه بكلّ الأحوال، فجسمي بدأ بالانتفاخ في منطقة الحوض/الأرداف في هذا العمر بسكّر، وبدونه. أكاد أنتهي، ويعلو صوت الآية: سَلامٌ قَوْلا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ، الجملة التي رددّتها أمي كلّما صعدت المصعد أو خافت من شيء. أتسحّر ولا أصوم، أتذوّق سنوات بكل لقمة، كأنّ هذا الطبق هو وسيلتي للاتصال بهذا الزمن الجميل. كانت أمي تقول أنهّا لا تحبّ الحاضر، ولكن ما إن يصبح ماضياً حتى تحبّه وتحنّ له، هل كلنّا هكذا؟ كأني ملكت كل شيء حينها ولم أكن بحاجة للتمنّي، أم كأنني ضيّعت الأماني على أشياء تافهة. أبكي مرة ثانية وأنام.
بعد شهر أفرّز بويضاتي، علّني يوماً أرزق بأطفال. أتساءل إن كنت أجمّد أيضاً كل هذا الحزن وأورثه. هل سأرث هدوء الـ 37 سنة أيضاً وحكمتها؟
 
(لوحة لأسامة بعلبكي).
 
الأسبوع الثاني:
 
كل أسبوعين، أقوم بجلسات التدليك، الايورفيديك، حيث أنه بعد وفاة والدتي، شعرت بتصلّب جسدي، لم أعد أشعر به أو بضرورته.
تدلكنّي سيدتان، يدهنان الزيوت ويمرّران أيديهما تزامناً على كلّ أنحاء جسدي. ينتهي التدليك، يغطيانني بشرشف أبيض لأرتاح. طقس يشبه طقس غسيل الميت الذي شاهدته منذ 9 أشهر، إلّا أن الهدف هنا إحياء الجسد الميت بدل توديعه.
منذ ثلاث سنوات، أثناء ارتيادي ورشة العلاج بالدراما والمسرح، طُلب منّا دعوة أمهاتنا، وفي أحد التمارين لمسهنّ وتدليكهن. كم كنت محظوظة بهذه الفرصة، لقيامي بذلك قبل مغادرة الروح الجسد.
لما نُدلّع فقط عند مماتنا؟ لما لا يُدهن جسمي بالشوكولا وأُلّف كبنبونة حينها؟
 
لم تكن أمي تعرف كيف تعبّر عن الحبّ بالكلمات. لم تقل أحبّك، حبيبي، أو تقبشيني. كانت تلّف السندويش وتأتي به إلى سريري مع النسكافيه حتى سن الـ 35 سنة! كانت تنتظر أن أستيقظ حتى تستعمل مرطبان النسكافيه الجديد، لمعرفتها أنّي أستمتع بنزع الورقة الذهبية التي تغطّيه. كانت تكتب لائحة بالمأكولات التي آكلها وتعلّقها على البرّاد، كي لا تنسى أنّي أكره الكوسا وورق العريش! تقبلّت بانفتاح كل أفكاري وأفعالي التقدّمية، رغم أنّ أربعة عقود تفصل بين جيلي وجيلها.
 
لا يكفيني كم أشبه أمي، أو كم أقول جملاً وأقوالاً تنفرّد بها. لا تكفيني أقوال أوشو ومشايخ الصوفيين، أو فلسفة فكري، لأرتبط بها في العالم اللاحسي، اللاملموس، أشتقت لأمي وأودّ أن أراها، لا أن أكونها. الآن أفهم سبب بكاء والدي كلمّا تذكّر أمّه وافتقدها. كأنه ليس المال والبنون زينة الحياة الدنيا حصراً؟ لا شكّ أنّ الانقلاع من الجذور الأولى سيوجع مدى العمر.
ماذا سأفعل بسبعين سنة من الحياة، الذكريات والأوراق؟ ملقط حواجب هنا، صور بريجيت باردو وفاتن حمامة هناك، كتب قديمة، ثيابها، ملفّة أو اثنتين، أسوارة المستشفى بإسمها لطفلها الأول، أوراق الرزنامة، ودعوات أعراس لبعض من نسينا.
منذ فترة، قتل الكلب سبع دجاجات أو أكثر لجاري. حزن كثيراً، واكتفى بتربية ثلاث دجاجات وديك. تعلّم بعد مدة على يوتيوب كيفية تفقيس البيض باستعمال لمبة. اليوم، سبعة صيصيان جدد تدور في الحديقة كأنّ شيئاً لم يكن.
هل ليوتيوب أنّ يعلّمنا كيف نفقّس عن جديد من نُحبّ؟
 
أنظّف الأرض مرغمة من الزرع الشتوي، أركّب نبريشاً جديداً للسقاية وجده أخي في بيت أمي، أسقي الأشجار، ولا حيل لي بزراعة أي شيء. لمَ سأزرع إن لم أكن سأقطف لأحد؟ السنة الماضية، كنتُ أفرَح وأُفرِح أمي بكل محصول أقطفه. نستكشف ونتعلّم عن الزراعة للمرة الأولى. أعدّ لها شوربة السلق، سلطة الزعتر، فريز، متبّل باذنجان. الآن، سأزرع فقط دوّار الشمس، علّه يلتفت نحوي مساء وأشعر أنّي مرئية.
 
(لوحة لأسامة بعلبكي).
 
الأسبوع الثالث:
 
ها قد بدأت عملية التفريز، يجب حقن الهرمونات يومياً لمدة أسبوعين. الحقنة الأولى ذات رأس صغير، تُضرب في البطن. حقنت الأولى في الصيدلية، وفي اليوم الثاني أردت الاعتماد على نفسي، لكون الأمر أكثر عملياً. حضّرت الحقنة، وانتظرت 10 دقائق كي تذهب رجفة يدي، وأخيراً شكيّتها. لا تؤلم، يا للشجاعة! أشعر أنّي إمرأة كاملة وقوية، وإن لم أصنع الحياة، فإنّي أصنعني.
أتوجّه بعدها لمدينة صور لقضاء بضعة أيّام في نزل على البحر، أردت مواجهة الهرمونات والسيطرة عليها قبل أن تسيطر على مشاعري وتصرّفاتي. المشهد الصباحي، منارة بيضاء، قطّة بيضاء تلحس نفسها في شمس الصباح، عصافير تغطّ على الشاطئ باحثة عن قوتها وتطير، قوارب الصيد تشّق الموج بحثاً عن رزقها أيضاً.
 
عادة، أكتب عن المَشاهد التي أريد أن أذكّر نفسي بها لاحقاً، أفترض أنّه، من الآن فصاعداً، عوضاً عن قراءة هذه الذكريات، الأحرى بي أن أقود سيارتي، أخرج من بيتي وأفكاري، وأن أضع نفسي في مشهد جديد. سأصنع سحري بيدي، كما كُتب على صينية قُدّمت عليها القهوة.
استمتعت جداً في صور، أرافق صديقتي ثريا، عزباء في العقد السابع من العمر، تمشي في الحارة ويصبّحها ويمسيّها كل صغير وكبير. تنادي الكلّ بأسمائهم، تتوجّه في الصباح يومياً لشرب القهوة على الميناء في أحد المقاهي. أرافقها أنا وكلبتي، نتساير مع ملحم صاحب القهوة الذي يهتّم بها وبضيفتها.
 
بعد الظهر، تشرب كأساً من الويسكي في الجهة المقابلة من الحارة، يضع لها النادل كرسياً صغيراً ومنفضة في وسط الطريق. يحيّها المارة، يُسايرها جاك صاحب المطعم، تُنهي كأسها وعلبة السجائر، وتعود مساءً إلى منزلها.
 
أتمشىّ في الحارة والمناطق المحيطة بها مع كلبتي. أينما ذهبت ألتقي بأطفال، أبرزهم بوب الصغير، ابن الـ 4 سنوات، يركض بشعره الأشقر الناعم الطويل على الشاطئ، يحمل فرخ ثعبان قتله جده منذ بعض الوقت، يُخيفني به، تلحقه ثلاثة كلاب، لا يخاف شيئاً، يركض بحذائه الـNike مسرعاً غير آبه بالصخور أو الجاذبية. كأنّه ماوغلي.
أفقّي السمك لوحدي، أحقن نفسي إبرة، يا الله على هذه القوّة. الآن أصبحت امرأة كاملة، أهتمّ بنفسي، جاهزة للاهتمام بغيري.
 
في الصباح الأخير قبل مغادرتي المدينة، نشرب القهوة عند ملحم، ينضمّ إلينا جاك، وثلاثة أشخاص آخرين ألتقيت بهم في الأيام الأخيرة، نتساير ونضحك حول ثريا، الكلّ يتأكد أنّ مستوى السكّري لثريا معتدل، وبأنها بخير، الكلّ يهتمّ بها ويحميها. يا لحظّها، لم تتزوّج، ولم يكُن في حياتها رجل أبداً، إنمّا كأنها تزوّجت المجتمع كلّه، وربّت أولاد وبنات الحارة جميعاً.

الأسبوع الرابع:
 
في بداية الأسبوع الرابع، مع بدء الإباضة، يتوجّب عليّ أخذ حقن جديدة تحت الجلد لمدّة ثلاثة أيّام. توجهّت على مضض إلى الصيدلية في النهار الأوّل، وعدتُ باكية. لم توجعني الحقنة، إنمّا يعزّ عليّ ضرب إبرة للمرة الأولى بغياب والديّ. لطالما خفت منها، لطالما اهتموّا بأموري الصحيّة.
ليلاً أتوجّه لجلسة ذكر وسحور، أثناء الذكر والإنشاد، أتنبّه أنّه في حال أني سأستعمل هذه البويضات وأنجب طفلاً/ة، فهذا يعني أنّه قد نشأ في داخلي. هذا يعني أنه/أنهّا جزء من جلسة الذكر هذه، من هذا الفرح، يستمع/تستمع لضربات دفّي وحنيّة صوت سيدي حليم.
 
في النهار الثاني، المصادف يوم أحد، لم أجد صيدلية مداومة بعد الظهر في كفرحيم، دير القمر أو بعقلين. أتذمّر من القيادة، وأتنبّه، أنّ الأمومة ستتطلّب أكثر من ذلك في حال مرض الطفل/ة. أتوجّه إلى المركز الطبّي في بعقلين، أنتهي، لا أبكي هذه المرّة، وأكافئ نفسي بقرن بوظة.
أتغلّب على هرموناتي حتى الآن. أحاربها بسماع الموسيقى، العلاج بالدراما، التأمّل، الذكر، بسمات الأطفال وبعض القبلات. أذهب ببويضاتي إلى البحر، أرقص، أكتب، أغنّي وأتنفّس مطولاّ.
ألتقي بصديقة لي، ونفكّر بصفات الحيوان المنوي، إن أردت تلقيح البويضات قبل التجميد: مُغامر، كريم، قلبه طيّب، صوته حلو، أو يقود فرقة موسيقية! نمزح ونصل بخيالنا لسوبر مان. لا نجد شاباً واحداً نعرفه بكلّ هذه الصفات. نتخلّى عن فكرة التلقيح، لا يمكنني أن ألعب بالقدر إلى هذا الحّد.
 
بالصدفة، أجد صور الطفولة أثناء زيارتي منزل أهلي. صورة لأمي وهي حامل بي، صورة لي وأنا طفلة. لم تكن لي أبداً رغبة بالتكاثر، لمَ الآن؟ ما هذا التوقيت؟ كأني أرغب باستنساخ طفلة صديقة تجمعني بها علاقة كما جمعتني بأمي؟ أم كأنّي أريد لجيناتها أن تستمر وتحيا؟
أحسّ بثقل البويضات في اليوم ما قبل الأخير، أُريح جسمي، تغلبني الهرمونات، أذكر، صوراً قديمة كثيرة تأتي إليّ، أشاهدها، وأبكي مطولاً.
في اليوم الأخير، توجّهت مع أختي لسحب البويضات باكراً، غرفة عمليات باردة، ممرضة لطيفة، وأنتهى الأمر بعشرة دقائق بنج، من دون أي جلبة.
في الثامنة من عمري، حزنت، ولا أذكر السبب، من أهلي. وقلت لهم أني سأهجرهم، وخرجت إلى السطيحة المجاورة مع ألعابي وأغراضي. حضّرت المكان للمبيت في الخارج، على غير العادة لم يأتِ أحد لمصالحتي. ما إن غابت الشمس، حتى عدت أدراجي لأحتمي بهم من كلّ ما في الخارج.
 
اليوم نصبت خيمتي عل سطيحة منزلي المطلّ على الوادي، ما إن دخلت فيها حتى تذكّرت تلك الحادثة. المفارقة أنّني الآن أهرب من حزني لفقدانهم. لا أطيق الجلوس داخل البيت، داخل أفكاري أو حزني.
سأبقى داخل الخيمة، الأوسع من الرحم بقليل،لعلّي هذه المرّة أسمع أمي تناديني إلى البيت: فاطِم، أو والدي يناديني فطّومة. لعلّهم هذه المرّة، يأتون لإدخالي ويفرّزون حزني هذا، ويحمونني من الخوف.